لعل أهم ما يميز جمال حمدان عن كثير من الاكاديميين أنه استخدم العلم لدراسة الواقع والتأمل فيه، والخروج من حالة التأمل الشاملة بتحديد علة أساسية يفسر بها هذا الواقع المتغير في أبعاده المختلفة، ويربط فيه الحاضر بالماضي، حتى لقد أصبحت مقولاته في هذا الشأن نوعا من التنبؤ بالمستقبل أثار بعض الخواطر ضده في بعض الأحيان، لكن الأيام أثبتت صحة تحليله العميق للأمور والتنبؤ بمساراتها وخاصة فيما يتعلق باليهودية والصهيونية، والاستعمار الجديد، وملامح الشخصية المصرية، بصرف النظر عما قيل من أن كتاباته المثيرة عن تكوين الشخصية المصرية وسلوكياتها جاءت من واقع محنته الشخصية في الجامعة وخروجه منها غير آسف، وانصرافه للكتابة في الشأن العام. في مطلع ستينيات القرن العشرين وفي عنفوان الحرب الباردة بدأت الرأسمالية العالمية (الأوروبية-الأمريكية) تعمل على مواجهة حركة التحرر العالمي من الاستعمار التي انطلقت من باندونج (أبريل 1955) تحت شعار "الحياد الإيجابي". وعندما بدأ التوتر بين المعسكرين العالميين (الشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي والغربي الرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية)، صاغت مجموعة الحياد الإيجابي مبدأ "عدم الانحياز" في سبتمبر 1961 بزعامة كل من عبد الناصر، ونهرو، وتيتو، للابتعاد بشعوبهم عن ذلك الصراع والتفرغ للبناء والتنمية. وفي الوقت نفسه كانت قوى الاستعمار تعمل على الاحتفاظ بمصادر المادة الخام في مستعمراتها السابقة وإبقائها سوقا لاستهلاك منتجاتها الصناعية مما يعني تعطيل عملية البناء والتنمية، ومن هنا أخذ الصراع القديم من أجل التحرر شكلا جديدا. وفي هذا المنعطف من المتغيرات العالمية والإقليمية أخذ جمال حمدان يتأملها فكتب "الاستعمار والتحرر في العالم العربي" في عام 1964 بعد اعتزاله العمل الجامعي مباشرة، ثم "استراتيجية الاستعمار والتحرير" (1968). وقد أشاد بحركة التحرر من الاستعمار حيث قال إن ما بناه الاستعمار القديم في خمسة قرون هدمته حركة التحرر الوطني في عشرين سنة، ففي خلال المدة من 1945-1965 انخفضت مساحة الاستعمار من 35% إلى 4% من مساحة العالم. لكنه لاحظ أن خروج الاستعمار صاحبه مشروع تفتيت المستعمرات إلى وحدات متعددة على أسس طائفية حتى يسهل السيطرة عليها، وهي ملحوظة عبقرية لم يتنبه لها أحد إلا بعد أن أصبحت واقعا ملموسا مع تبلور النظام العالمي الجديد الذي بشر به الرئيس الأمريكي بوش الأب بعد تفكيك الإتحاد السوفييتي (نوفمبر 1991). وهذا الاتجاه يمثل عند جمال حمدان شكل الاستعمار الجديد neo-imperialism .. أي تغيير الشكل دون الموضوع كما يقول، أو تغيير الإطار وليس الصورة، وتفتيت الدول المتحررة لا تبعيتها، وامتصاصها لا امتلاكها، وأدواته في تحقيق هذا تتمثل في الشركات والاحتكارات وليس الجيوش والغزو .. يعطي الاستقلال ويأخذ المحصول. وفي هذا انتهى جمال حمدان إلى القول إن وسيلة الاستعمار الجديد كانت ربط الدول المتحررة الحديثة بالأحلاف والتخلص من القوى التي تتخذ موقفا ضد الأحلاف وترفض الانطواء تحت جناح النسر الأمريكي، ومن هنا جاء التخلص من جمال عبد الناصر، ومن كل زعماء الحياد الإيجابي وعدم الانحياز بالتدريج وأصبح خلفاؤهم أداة طيعة ولا يمثلون زوايا حادة في التوازنات الدولية. وتحول عدم الانحياز كما لاحظ حمدان إلى قوة متهادنة وهمزة وصل بين الكتلتين لا حاجز فصل. وأكثر من هذا أن الخلافات الثنائية على الحدود والأقليات ومعظمها من إرث الاستعمار أصبحت خطرا حقيقيا على جبهة عدم الانحياز في آسيا وإفريقيا، وتم اختراق دول الجبهة فأصبح عددا من دولها كما يقول حمدان من دول الجبهة اسما ولكنها فعلا ترتبط بقوى الاستعمار القديم. وما نراه اليوم أن بعض هذه الدول أصبحت أدوات للاستعمار في العالم العربي أو الشرق الأوسط تحت مسميات مختلفة مما يؤكد صحة قراءة جمال حمدان للأحداث. وفي هذا وقع ما تنبأ به جمال حمدان حيث إن أمريكا أخذت تصفي حركة عدم الانحياز عن طريق: المساعدات والقروض والمنح، ومؤامرات المخابرات والانقلابات والغزو من الداخل، أو الضغط الاقتصادي والتجويع، أو الحرب النفسية والحملات الدعائية، والعدوان المسلح المقنع، وهو ما نشهده الآن باسم الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات ودعم الديمقراطية في بلادنا ثم أخيرا في أزمة انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية وانزعاج أمريكا من هذا التحول. حتى لقد قال جمال حمدان: أينما تكونوا تدرككم الولاياتالمتحدة. ومن عبقرية جمال حمدان ورؤيته المستقبل من خلال الجغرافية السياسية قوله: إن الإمبريالية الأمريكية خدعت شعوب العالم الثالث في أنها تحارب الاستعمار القديم وأنها تقف إلى جانب التحرر، فأثبتت الأيام خيبة أمل العالم الثالث في أمريكا التي ورثت كل الرأسماليات الديمقراطية والديكتاتورية والليبرالية والفاشية. وأصبحت زعيمة الثورة المضادة في العالم أجمع، وقلعة الرجعية العالمية، ومأساة العصر الكبرى، وسرطان العالم الذي يدمر خلايا المجتمع العالمي. وهذا هو الحاصل فعلا في أيامنا هذه على مستوى العالم في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط والعالم العربي حيث ترى أمريكا أن حدود أمنها القومي فوق الكرة الأرضية وليس في الحدود المشتركة مثلما هو حال شعوب العالم. وحين نشر كتابه "إستراتيجية الاستعمار والتحرر" في عام 1968 يقول: «إن الولاياتالمتحدة تنظر إلى التعايش السلمي (زمن الحرب الباردة) كهدنة مسلحة مؤقتة تكسب بها وقتا أولا وأرضا ثانيا دون أن تتخلى عن خطتها العليا للسيطرة والسيادة الكوكبية بما في ذلك أساسا السيطرة على الكتلة الاشتراكية المضادة»، وهذا ما حدث فعلا عند تفكيك الاتحاد السوفييتي (نوفمبر 1991). وقد ذكر في هذا الكتاب عبارة "السيادة الكوكبية" قبل أن ترد على لسان كتاب السياسة فيما بعد بنحو ثلاثين عاما. وفي هاتين الدراستين المهمتين ينتهي إلى القول: إن مصير الإمبريالية العالمية يتوقف على مصير العالم الثالث، وإن مصير العالم الثالث يتوقف على مصير العالم العربي، ومصير العالم العربي يتوقف على مصير فلسطين/إسرائيل. وفي منعطف العنصر الثالث في هذه الثلاثية تأتي أهمية كتابه "اليهود انثروبولوجيا" الذي نشره في عام 1967 في أعقاب عدوان يونية 1967، والذي عمل على تطويره في كتاب عن "اليهودية والصهيونية" والذي اختفت مسودته بعد موته حرقا في حادث لا يزال غامضا، إذ قال إنه في وقت انحسار الاستعمار القديم بدأ استعمار جديد ودنىء في فلسطين وهو الاستعمار الصهيوني الذي كرر قرصنة القرن التاسع عشر وجمع ما بين دموية النازية وعنصرية جنوب إفريقيا، ولكنه استعمار محكوم عليه بحتمية التاريخ بأنه قد ولد ليموت. وهذه قراءة لا تزال تحت الاختبار بين الفعل ورد الفعل كما يشهدها ويتابعها العالم اليوم. أما فيما يتعلق بتأملات جمال حمدان في تاريخ مصر والشخصية المصرية , فقد جاءت كلها من واقع شروط الموقع الجغرافي، وقد ثبتت صحتها مع تطور الأحداث. ففي كتابه شخصية مصر (يولية 1967 الذي أصبح موسوعة "شخصية مصر" فيما بعد)، انتهى إلى أن موقع مصر الجغرافي يمثل نقطة القوة والضعف معا، وكان من أسباب تكالب الاستعمار عليها وعلى المنطقة، وهي رأس الجسم العربي وجهازه العصبي والفعال وبوصلة العالم العربي التي تتحسس نبضه وترصد تيارات العالم ثم تحدد اتجاه القافلة. لكن المصريين لم يدركوا أهمية هذا الموقع وهذا الدور إلا جمال عبد الناصر ومحمد علي (والي مصر) من قبله. ومشكلة هؤلاء المصريين كما يلاحظ جمال حمدان جاءت من النخبة السياسية التي توزعت بين عدة تيارات وولاءات، حتى لم تعد الجماهير تعرف المناسب من غير المناسب: فهناك كما يقول: قوى الاستعمار والرجعية الحاكمة صاحبة مبدأ "مصر قطعة من أوروبا"، وهناك بورجوازية المثقفين طفيليات الاستعمار وبعض الأقليات التي تنادي ب"الوطنية المصرية" فرفعت "الفرعونية" رأسها لتكون الإطار الفكري، وهناك ثالثا "مصر للمصريين" بشعار تحرري ضد الاستعمار لكنه أيضا انفصالي خبيء، وهناك مقولة "افريقيا للإفريقيين" وُيقصد به عزل مصر عن المشرق العربي، وأيضا شعار "وحدة وادي النيل" الذي ارتبط بشعار مصر للمصريين بفعل الرجعية الحاكمة، وأخيرا "الجامعة الإسلامية" شعار السلطان عبد الحميد العثماني للسيطرة على بلاد المشرق. وينتهي جمال حمدان من كل هذا إلى أن "العروبة مصير مصر"، وهذا ما أدركه جمال عبد الناصر، لأن الرابطة الإسلامية وحدة عقيدة لا وحدة قومية، وهو ما لم تدركه جماعة الإخوان المسلمين حين حكموا (يونية 2012-يونية 2013) حيث لم يكونوا يمانعون في التفريط في حدود الوطن وسيادته لحساب الرابطة الإسلامية التي تتجاوز الرابطة القومية والوطنية التي ثبتت فعاليتها في بناء الدولة الوطنية وتماسك أبناء الوطن الواحد على اختلاف الأعراق والأديان والمذاهب. أما عدم إجماع كل المصريين أو غالبيتهم على فكرة محددة مع أنهم أبناء "الوحدانية والتوحيد" فقد أرجعه جمال حمدان إلى البيئة الطبيعية التي حددت ملامح الشخصية المصرية في مجمل أخلاقها وسلوكها .. في الطغيان والاستبداد.. وفي الدعة والخضوع .. وفي القوة طلبا للنفوذ .. وفي النفاق طلبا للبقاء .. وفي العزلة طلبا للحماية .. وفي السيطرة طلبا للمجد. والحاصل في هذا الخصوص أن البيئة الفيضية وضبط نهر النيل أنجبت الطغيان والمنافسة في الشخصية المصرية، وما كان من اشتهار المصريين القدماء بكثرة الخصام والتقاضي وفيما بعد الأخذ بالثأر. وفي الوقت نفسه انجبت النظام والاستقرار والوداعة، وانعدام روح المبادرة والمبادأة والمغامرة التي انتهت بالفلاح المصري إلى أن يكون جهاز استقبال وخضوع، بعكس البيئة الجبلية الوعرة التي تقوم على السكنى المبعثرة والتي لم تعرفها مصر، والتي أشاعت روح الفردية العارمة ونمو روح المقاومة والتمرد. ولقد انتهى جمال حمدان إلى أن هذه البيئة الفيضية كانت كفيلة بأن تفرض نوعا مريضا من الانتخاب الاجتماعي لا يكون فيه للعناصر الأبية أو المتمسكة بحقوقها أو بكرامتها نجاح اجتماعي مرموق، بل الأرجح أن تضاد وتباد، على حين تفرض العناصر الرخوة السلسة المنقادة أو الهلاميات الأخلاقية. ومن ناحية أخرى فإن البيئة الفيضية فرضت المركزية، وهذه فرضت وجود الموظفين لتنظيم التصرف في المياه للري بحيث أصبحت مصر مجتمعا "حكوميا"، فالحكومة وحدها هي التي تملك زمام المبادرة وإمكانات العمل. ورغم أن هذه الصفة كانت ذات قيمة في بعض المراحل لمواجهة بعض المشكلات، إلا أنها أوجدت روح التواكل والتكاسل والسلبية وخنق ملكات المبادأة وحوافز التلقائية. ولعل هذا ما يلحظه المراقب المعاصر لما يحدث في هذه الأيام من حيث تشتت القوى الوطنية، وعجزها عن توحيد مواقفها، وثأر بعضهم من بعض، وتشهير كل منهم بالآخر، واحتكار كل منهم الحقيقة لدرجة الاقتتال وهو ما لم يحدث في تاريخ مصر من قبل. ويبقى التنويه إلى صدق مقولة جمال حمدان: إن ثورات المصريين كانت من أجل الكرامة: كرامة الفرد وكرامة المجتمع معا.