تحمل لنا السيرة النبوية الشريفة أعظم صور التسامح والعفو، فعندما فتح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكة، قال لأهلها : ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال النبى لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وعندما جاء رجل وقال للرسول الكريم : أوصنى يا رسول الله فقال له الرسول الكريم«لا تغضب»، فلماذا غاب التسامح والود والحب بين أبناء الدين الواحد والوطن بل والرحم الواحد، رغم أن الإسلام يأمرنا بالتسامح والعفو، فكل الأزمات والمحن التى يتعرض لها الوطن حاليا، نتيجة لغياب القيم والمبادئ التى جاء بها الإسلام . علماء الدين من جانبهم أكدوا أن التسامح والعفو ضمانة لأمن واستقرار المجتمع، وطالبوا بترسيخ هذه المعانى لدى الأجيال، وأشادوا بالقوافل الدعوة للأزهر والأوقاف التى تجوب بعض مدن الصعيد حاليا للحديث حول سماحة الإسلام وسعة أفقه، كما طالبوا وسائل الإعلام بعدم إثارة بعض القضايا التى تؤدى للخلاف والتعصب أو تضخيم الأحداث، لأن ذلك يمثل خطورة على الوطن، ويهدد السلم الاجتماعي. ويؤكد الشيخ محمد عز الدين، وكيل وزارة الأوقاف لشئون الدعوة، أن التسامح من أخلاق الإسلام، والنبى الكريم صلى الله عليه وسلم وقف لجنازة من الجنازات، فلما قالوا له يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، قال أليست نفسا، وهذا دليل على السماحة فى الإسلام، كما أنه صلى الله عليه وسلم زار جاره اليهودي، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بذلك، وكان لا يواجه الإساءة بالإساءة بل يواجه الإساءة بالإحسان والتسامح، وهذا قول الله تعالى «وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»، فالتسامح والعفو سبيل لمواجهة كل المحن والأزمات التى يواجهها المجتمع، مشيرا إلى أن وزارة الأوقاف قررت أن يكون موضوع القوافل الدعوية التى تنطلق للصعيد على مدى الأسبوع الحالى حول «سماحة الإسلام ومنهجه فى التعايش السلمي»، وذلك بهدف عرض سماحة الإسلام وسعة أفقه ومواجهة التشدد والتطرف والأفكار التى تخالف منهج الأزهر الوسطى المعتدل. وأوضح أن هذه القوافل تتم بشكل مستمر وبمشاركة كبار علماء الأزهر والأوقاف، وذلك فى إطار سعى الأوقاف إلى اعتماد السلام الاجتماعى والتسامح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة سلوكا ومنهجا، والتحلى بالرفق واللين فى القول والعمل، كما يعقد العلماء المشاركون فى القوافل ندوات ودروسا فى المساجد، حول هذه القضية على مدى الأسبوع. العفو ليس ضعفا ويقول الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم، عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر بأسيوط، إنه من الأخلاق التى حث عليها الإسلام فضيلة التسامح والعفو عن الناس، فهى من الأخلاق الحسنة التى غرسها الإسلام فى نفوس المسلمين، وقد قال الله سبحانه وتعالى للرسول الكريم «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، وقال سبحانه وتعالى أيضا فى وصف المحسنين «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»، ويفهم من هذه الآية أن الذين يكظمون الغيظ والعافين عن الناس، هؤلاء يحبهم الله عز وجل، أما الذين يعتدون على الآخرين ولا يسامحون الناس، فهؤلاء لا يحبهم الله عز وجل، وكثير من الناس يظن أن العفو إنما هو ضعف، ولكن الصواب يخالف ذلك، فالإنسان القوى هو الذى يعفو ويصفح، وهو الذى يستطيع أن يتغلب على نفسه، ومن هنا قال النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، فى الحديث الشريف: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب»، وهناك أمر مهم نبه عليه الرسول فى حديث رواه مسلم حين قال النبى «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا»، فالذى يعفو ويصفح ويسامح الآخرين مبشر من قبل النبى الكريم صلى الله عليه وسلم بالعزة والرفعة، وهذه العزة والرفعة لا تكون فى الآخرة فقط، وإنما تكون فى الدنيا والآخرة، فمن أراد أن يعلو شأنه وأن تكون مكانته عند الله تعالى وعند الناس مكانة كريمة، عليه أن يلزم خلق التسامح العفو والصفح، وفى الإسلام أعظم مثال للصفح، عند فتح مكة، عندما جاء هؤلاء الناس الذين فعلوا بالمسلمين الكثير، قال لهم النبى الكريم صلى الله عليه وسلم «ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم الرسول: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، بل إن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم عفا عن الرجل الذى رفع السيف عليه، وقال للنبي: من يمنعك منى يا محمد، فقال النبي: الله، فسقط السيف، فأخذه الرسول الكريم، وقال له: ومن يمنعك أنت مني، فقال الرجل: يا محمد أنت أهل للعفو، فعفا عنه النبى الكريم وأطلق سراحه. جزء من الإيمان وفى سياق متصل يقول الدكتور زكى عثمان، أستاذ الثقافة الإسلامية جامعة الأزهر، إن الرسول الكريم قال «أمرنى ربى بتسع، الإخلاص فى السر والعلانية، العدل فى الرضا والغضب، والقصد فى الفقر والغني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطى من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتى فكرا، ونظرى عبرة، ونطقى ذكرا». وأضاف: إن هذه المنظومة المتكاملة تقدم التسامح بكل جوانبه، فتقدم التسامح الأسرى والتسامح المجتمعى الذى يجعلنا فى ترابط ومودة، وهكذا ينبع التسامح من الإيمان، كما قال الرسول الكريم: «مثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمي»، فما أجمل التسامح حينما تصفو النفوس وتصلح النوايا وتبتعد عن مستصغر الشرر، الذى يوقد نيران الحقد والحسد والغيظ، ولمواجهة هذه الفتنة فلابد من الصفح والعفو، فالله عز وجل يقول «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»، فالأخذ بالعفو أقوى سلاح لمواجهة الفتنة والعصبية.