مفكر ومناضل نبيل, اشتبك اشتباكا حميما ومستنيرا مع حركة تحرر وطني, وانصهر في أتون معاركها من أجل الحرية وحقق ذاته الإنسانية, وبلور رؤيته الفكرية. انه الطبيب والمفكر فرانز فانون, الذي ارتبط ارتباطا وثيقا باشراقات حركة التحرر الوطني الجزائرية, وتجليات ثورة المليون شهيد. لكن فانون, برغم امتشاقه السلاح, وخوض معارك الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي, لم تكتحل عيناه بمشهد انتصار الثورة عام1962, ذلك أنه قضي نحبه قبل عام من جراء مرض ألم به, ولم يكن قد تجاوز السادسة والثلاثين من عمره. وفي هذه الأيام يحتفي كتاب ومثقفون بذكري مرور خمسين عاما علي موته, ويسردون أطيافا من حياته ومسيرته النضالية والفكرية. لكن الرائع حقا, أن الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر قد بهرته أفكار فانون ونضاله, ومن ثم عكف باهتمام علي قراءة كتاب فانون معذبو الأرض, وكتب مقدمة ضافية للطبعة التي أصدرتها إحدي دور النشر الفرنسية للكتاب عام.1961 ولايمكن تصور أن يكتب أحد عن فانون بمثل هذه الروعة, وذاك العمق الذي كتب به سارتر, وقد يكفي للتدليل علي ذلك قراءة هذه الفقرة من مقدمة الفيلسوف. افتحوا, أيها الأوروبيون, هذا الكتاب, وادخلوا فيه, فبعد بضع خطي تخطونها في الظلام, سترون أجانب مجتمعين حول نار, فاقتربوا منهم وأصغوا: إنهم يناقشون المصير الذي يرصدونه لمواقعكم التجارية وللمرتزقة الذين يدافعون عنها, وقد يرونكم, لكنهم سيستمرون في التحدث فيما بينهم, حتي من غير أن يخفضوا الصوت, وهذه اللامبالاة تضرب القلب, إن الآباء الذين هم مخلوقات الظلام, ومخلوقاتكم أنتم, إنما كانوا أرواحا ميتة, كنتم تنشرون عليهم النور ولم يكونوا يتوجهون إلا إليكم, ومع ذلك, فانكم لم تتكلفوا الاجابة علي هؤلاء الأشباح, أما الأبناء فيجهلونكم: ان نارا تضيئهم وتدفئهم, ليست هي ناركم وسوف تشعرون, وأنتم علي مسافة محترمة, بأنكم متخفون في الظلام, ترتعدون. إن لكل دوره, وفي هذه الظلمات التي سينبثق منها فجر جديد, ستكونون أنتم الأشباح. انتهت فقرة سارتر, كما وردت في كتابه الاستعمار الجديد, ترجمة عايدة وسهيل إدريس, الصادر عن منشورات دار الأداب بيروت أكتوبر.1964 {{{ والسؤال الآن: من هو فرانز فانون, الذي استأثر كتابه باهتمام الفيلسوف الفرنسي؟ إنه من أبناء جزيرة المارتينيك, ولد بها عام1925, وتلقي تعليمه الأساسي في مدارسها, واستكمله في فرنسا. وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية, انضم الي جيش فرنسا الحرة الذي تولي قيادته الجنرال شارل ديجول, وكان ديجول قد شكل حكومة فرنسا الحرة في المنفي البريطاني, عقب غزو القوات النازية الالمانية لفرنسا. وشارك فانون في معارك الحرب العالمية في شمال إفريقيا وأوروبا, فلما تحررت فرنسا من الغزو النازي, ووضعت الحرب أوزارها بهزيمة ألمانيا النازية, التحق فانون عام1947 بجامعة ليون بفرنسا, ودرس الطب وعلم النفس. وبدأ مسيرته النضالية ضد الاستعمار والعنصرية منذ عام1953, ففي ذاك العام تم تعيينه رئيسا لادارة الطب النفسي في مستشفي فرنسي ببلدة جزائرية. ولم يمض عام علي اكتشافه ضراوة الاستعمار الفرنسي وشراسته في الجزائر, حتي انضم, طواعية واختيارا, لجبهة التحرير الجزائرية, وعمل في صحيفتها السرية المجاهد اعتبارا من عام.1956 وفي ذاك العام, حضر المؤتمر الأول للكتاب والفنانين السود الذي انعقد في باريس, ثم شارك في مؤتمر الشعوب الإفريقية الذي انعقد في أكرا عام.1958 وتبوأ فانون مكانة سياسية رفيعة عندما عينته الحكومة الجزائرية المؤقتة سفيرا لها في غانا عام.1960 وفي ذاك الوقت كانت مسيرة فانون النضالية تقترب من نهايتها, فقد أصابه مرض عضال أفضي الي موته عام.1961 {{{ وهنا يشير نفر من الباحثين والمؤرخين, الي أن فانون قد تأثر أيما تأثر بالفكر السياسي المناهض للاستعمار الذي كان يطرحه الفيلسوف الفرنس جان بول سارتر(1905 1980), ذلك أن الفيلسوف كانت أفكاره السياسية تجنح نحو اليسار الماركسي, برغم فلسفته الوجودية, وقد حاول المزج الفكري بين الماركسية والوجودية. كما كان سارتر يؤيد الاتحاد السوفيتي, وظل كذلك حتي داهمه وروعه التدخل العسكري السوفيتي لقمع ثورة المجر عام.1956 ومن الجدير بالذكر, في هذا السياق, تأكيد حقيقة ساطعة وهي أن سارتر لم يقبع يوما في البرج العاجي للفلسفة, وانما كان يسعي في الطرقات ويقود المظاهرات في شوارع فرنسا ضد الاستعمار والعنصرية وانذارات الحرب النووية وسباق التسلح بين المعسكرين المتصارعين: الاتحاد السوفيتي وأمريكا. وأيا ما يكن تأثر فرانز فانون بأفكار سارتر ومواقفه السياسية, فقد بلور رؤية نضالية وفكرية تعانق أشواق الإنسان في العالم الثالث للحرية والتقدم. وتتجلي رؤية فانون في كتابه معذبو الأرض الصادر عام1961, وكان قد استهل مؤلفاته المهمة بكتاب عنوانه: جلد أسود, أقنعة بيضاء(1952) واحتضار الاستعمار(1959), والثورة الإفريقية(1964), وهو كتاب صدر بعد موته. وهنا يشير مفكر من الكاميرون هو أشيل مبامبي في مقال نشره في ديسمبر من العام المنصرم2011 في مجلة لوبوان الفرنسية.. أن حركات اجتماعية في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدةالأمريكية تستلهم أفكار فانون عن فضيلة الثورة الاجتماعية التلقائية, وهي ثورات بلا قادة. وهذا مايمكن ملاحظته في حركات الاحتجاج الاجتماعية في أمريكا وأوروبا وآسيا, وهي الحركات التي بدأت بوضوح في مدينة سياتل الأمريكية عام1999 ضد الرأسمالية الجامحة والعولمة. {{{ إن فرانز فانون كمناضل من أجل الحرية, ومفكر من أجل شرف الإنسان وكرامته.. لايزال حاضرا في المشهد السياسي الكوني. وسيبقي كذلك, لأن الأفكار النبيلة والجليلة التي تستشرف الآفاق الجديدة للأمل والتقدم لا تموت ولا تفني بموت مبدعها, وإنما تزدهر في بساتين الحرية, وتتألق في حدائق العدل.