فلاديمير بارتول: كاتب يوجوسلافى، من أقلية سلاڤية ضئيلة تنازعت عليها تاريخياً النمسا وإيطاليا حتى استقرت فى ركن من يوجوسلافيا، الكيان البلقانى الذى أنجبته الحرب العالمية الأولى. وبارتول كاتب اشتهر برواية وحيدة هى آلاموت (1938) (الاسم فى الترجمة التى قرأتها مكتوب هكذا: آلموت وينطق بفتح اللام ففضلت أن أضع ألفا بعد اللام لكى تُقرأ كما تنطق)، وهو اسم قلعة جبلية فى شمال شرق إيران ويعنى عش النسر, كانت مقر زعيم الطائفة الإسماعيلية، ورجاله الذين اشتهروا تاريخياً باسم الحشاشون. وسيرد لاحقاً تفسير الاسم. يكفى الآن أن نذكر أن الإسماعيلية هى طائفة شيعية إيرانية نشأت فى القرن الحادى عشر واستطاعت قرب نهاية القرن التسبب فى انحلال الإمبراطورية السلجوقية، نسبة إلى السلاجقة وهم أتراك حكموا إيران وسيطروا على الخلافة العباسية حتى استطاعت فرق الإسماعيليين الانتحارية وفدائيوها المسمون الحشاشون فك عرى الحكم السلجوقى عن طريق الاغتيال السياسى، أولاً للصدر الأعظم (كبير الوزراء) نظام المُلك، ثم للسلطان ملك شاه. هذه هى الخلفية التاريخية. وكان بارتول ملتزماً بها وبالكثير من التفاصيل، إلا أننى أزعم أن آلاموت ليست كتابة لرواية تاريخية بقدر ما هى قراءة فلسفية لتاريخ رجل يغرى بالتأمل والتفلسف. لقد رسم بارتول شخصية حسن الصباح زعيم الطائفة الإسماعيلية ومؤسس كتائب الحشاشون الانتحارية -رسمها فى صورة فيلسوف مُحيِّر ومُتَحيِّر يختبئ وراء «النبى» الدموى الصارم ولا يتجلى إلا لأخص الأصدقاء. ولم يكن بارتول يحتاج لأن يُعمِل خياله كثيراً، لأن المادة التاريخية المتوافرة لديه فيما يخص شخصية الصباح تكاد تعطينا الصورة المحيرة مكتملة. يقول لنا التاريخ إن حسن الصباح كان فى صباه الصديق الصدوق لفيلسوف النبيذ والعشق الشاعر الأبيقورى عمر الخيام، وأن ثالثهما كان نظام الملك نفسه الذى سيصير فيما بعد الصدر الأعظم المقتول بيد فدائى من عند صديقه حسن الذى صار بحكم السياسة وتقلبات الزمان عدوه الأكبر. يقول التاريخ أيضاً إن «سيدنا» حسن الذى يحرم على عوام طائفته مجرد الحلم بطيف خيال امرأة، يبيح لنفسه ولأتباعه المقربين شرب الخمر، ويخبئ خلف القلعة حريماً معداً لاستقبال الشباب الغرير الذى أقنعه بأنه يمتلك مفاتيح الجنة، وبمساعدة حبة باطنها الحشيش وغلافها من سُكّر، يرسلهم وهم نائمون لحدائقه المختبئة فتستقبلهم بنات مدربات على لعب دور الحور العين، وبعد ليلة فردوسية يُنِمنَهم بنفس الطريقة ليستيقظوا فيجدوا أنفسهم على الأرض من جديد، مجانين من الشوق أو يكادون. وبعيدا عن التاريخ قليلاً فى حدوتة بارتول, هذه كانت الحيلة التى حولت ابن طاهر إلى قاتل نظام الملك، وجعفر إلى قاتل السلطان ملك شاه وجعلت يوسف - بأمر من حسن - يقفز من أعلى برج القلعة ليلاقى محبوبته زليخا فى وهم الفردوس، وبنفس الأمر، وحتى ينقل مبعوثو السلطان ما يرون، يطعن سليمان قلبه العاشق ليقابل فتاته حليمة الحورية. كل هذا يصدر عن عقل لا يؤمن بشىء، بل يجعل عدم الإيمان بشىء هو الأساس الذى يقوم عليه البناء: لا شىء حقيقياً، إذن كل شىء مباح. أى أن الصباح يبيح لنفسه - ولكبار أتباعه - كل شىء، استناداً لأنه يعرف - ويعرفون - أنه لا سبيل للوصول لأى يقين. إن أتباعه يدرسون القرآن وكبارهم لا يؤمنون بشىء. وفى النهاية نكتشف - إلا إذا كانت هذه حيلة أخرى منه - أن الأمر كله، والصراع كله صراع قوميات، وأنه استغل الدين والتشيع من أجل إعلاء القومية الفارسية فوق المرجعية الدينية العربية والحكم التركى. شخصية محيرة. ورواية جميلة تتساءل حول طبيعة الحقيقة: هل هى خارجية أم داخلية؟ حول ما إذا كان ذلك المحتال قد فتح حقاً لأتباعه أو - لنقل- ضحاياه باب فردوس من نوع ما، إذا قسنا المسألة بمقياس النشوة التى شعروا بها! أى أن الحقيقة قد تكون داخلنا لا خارجنا، حالة عقلية سيكولوجية. هكذا يبرر حسن الصباح لنفسه خديعته الكبرى. وللأسف حجته الفلسفية قوية: النشوة التى شعر بها الفدائيون فى ليلتهم الفردوسية المصطنعة كانت صادقة! هذا من ناحية ما تطرحه الرواية أو بعض ما تطرحه، أما من حيث الصياغة والبناء، فالرواية كلاسيكية تقليدية ، هندسية البناء، فصولها تتابع باطراد تراكمى من نقطة البداية إلى النهاية، دون تقنيات حداثية من حيث تداعى تيار الوعى، أو تمازج الأزمنة، أو وجود أكثر من راوٍ للحدث وما شابه. رواية هندسية إقليدية بامتياز، لكن ذلك ليس عيباً، لأنها متعة أدبية خالصة ترقى إلى سماوات الشعر كجوهر ولا يعيبها إلا بعض عدم التوفيق فى الترجمة، دون أن ينال ذلك كثيراً من متعتها. الرواية صادرة من منشورات الجمل و الترجمة بقلم فاطمة النظامى. لمزيد من مقالات بهاء جاهين