إذا تعرفت على أستاذ لعلم الفلسفة، يدرك جيداً ما تعلمه من أعلام الفلسفة في العالم فقد يصبح مدرساً جيداً لها. وقد تتوقع منه أن «يتفلسف» أي يصبح «فيلسوف» له أراء في إشكاليات علم الجمال ونقد الفنون والآداب والمكان والزمان والحب والحياة والوجود والعدم والموت، أما أن تجد في هذا الفيلسوف، كل ما سبق وأن يكون مبدعاً وكاتباً للقصة القصيرة «المتفلسفة» وأن يتمتع بذات العاشق والمعشوق، فهذا ما يصعب توقعه، حتى تعرفت بالصدفة على الأستاذ الدكتور سعيد توفيق ،فوجدت فيه كل ما سبق . كتاب الخاطرات للدكتور سعيد توفيق هو محاولة للخروج بالفلسفة من قاعة الدرس إلى الميدان الثقافي الأرحب وحيث تتنزل فيه الفلسفة من برجها العاجي لتتغيا مواطن الجمال وهموم الوجدان والوجود كالأخلاق والحب والحياة والموت.. في الجزء الأول يناقش توفيق إشكاليته مع الذكرى والحلم، في أحلام الطفولة المطوية. يقول «إن الفقر لا ينال من أحلام الطفولة بل ربما اتسعت معه مساحة هذه الأحلام» و»يسأل الطفل أسئلة لا يسألها إلا الكبار من العباقرة والمبدعين» و»أن الدهشة المولدة لشرارة الإبداع الأولى هى دائماً دهشة إزاء المألوف يسألنا الطفل ربنا فين؟» و»من ذا الذى يقاوم حلم الطفولة، فحتى الأشرار يتعاظم حنينهم إلى الطفولة، ربما أكثر من غيرهم» وفي ترانيم الليل يقول «تسكن الكائنات في الليل بينما تسرح الكائنات والعقول (الكبيرة) فيه لتجعل من مجمل هذا الكون بسائر كائناته موضوعاً لتأملها، بعقول الفلاسفة والشعراء والفنانين»/ ويروى توفيق تجربته في تأمل الكون بالليل أثناء رحلاته للصيد في مصر البحر الأحمر، وبحر الخليج العربي وفي خليج عُمَانْ المتصل بالمحيط الهندي وكيف أن لليل روائحه وعبيره، أما أصواته وهمساته فإنها أصوات السكون/ في ذاكرة الليالي يروى «تتداعى على ذاكرتي الفترة التي قضيتها مجنداً بالجيش وهى فترة لا تنمحي أبداً من ذاكرة أي موجود بشري» من عام تخرجه وترتيبه الأول على قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عام 1976 إلى تجربته كمجند في الساحل الشمالي، مطروح، السلوم مع بقايا الألغام التي تمتلئ بها الصحراء الغربية وحادثة انتحار قائد السرية الذى سدد رصاصة من فوهة المسدس الذى كان لا يزال يقبع في فمه ويقول «بكيت شاباً من جيلي يضيع هباءً، وكم من الشباب الآن يضيعون هباءً؟!» ويضيف «عجيب أمر تلك الذاكرة المرتبطة في نفوسنا بالحنين، إنها ما يجعل لوجودنا معنى فنحن بدون حضورها فينا نصبح كائنات بلا معنى» ذاكرة الروائح ,يقول توفيق «الروائح هى أقل الأشياء التي يلتفت إليها البشر في تأملاتهم، مع أنها من أكثر الإحساسات ارتباطاً بالحياة فلكل رائحة مصدرها الذى يبقى وإن زال أثرها، فهو قادر على أن يبثها من جديد، لماء البحر رائحته المميزة، ولحقول الريف روائحها المميزة، ولروائح الطعام مفردات خاصة، إن روائح الأشياء جميعاً يجب أن تنتمي للوطن، فالوطن الذى لا نشم روائحه في الأشياء هو وطن بلا روح». في الجزء الثاني الفن والحنين، الحنين إلى الرومانتيكية, يرى توفيق «إن التحولات التي طرأت على عالمنا لم تؤد فحسب إلى غياب الرومانتيكية والحب الرومانتيكي، وإنما أصبح كل هذا مثار تندر وسخرية، وقد بدأ هذا الحال في الغرب الذى أنتج اقتصاد العولمة وثقافتها ثم تبعناه نحن بعدئذ باعتبارنا مجرد تابعين منسحقين» ويرى «أن الرومانتيكية هى نزوع لرد الإنسان إلى الطبيعة وإلى ما ينتمي إلى طبيعتها في جوهرها ففلسفة ما بعد الحداثة مليئة بالعدم والعبثية بخلاف الفلسفات التي تبحث عن وجود إنساني أصيل.. ويقول «الحالة الرومانتيكية نأسى عليها ونحن إليها من خلال أغاني عبد الحليم حافظ، والفيلم السينمائي الشهير تيتانك» وإلى كل ما هو حنين إلى الماضي». في الجزء الثالث المكان والحنين، يبدأ توفيق باستعادة الحنين إلى المكان ويقول «ربما يقال إن الزمان هو ما يكون له التأثير الأعظم في نفوسنا لأننا بدونه نكون نسياً منسيا وهو ما أفصحت عنه في تدويني لشئ من سيرتي بعنوان نشيج على خليج، ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن الذاكرة لا معنى لها بدون المكان، طالما تخيلت أنني أجوب حول الأرض من سفينة فضاء». في الجزء الرابع من الخاطرات بعنوان الحب والأخلاق، يروى لنا توفيق عن إشكاليات خمس، في الصداقة وفي الجزء الأخير من الخاطرات، يطرح توفيق فلسفته نحو الحياة والوجود في الوجود الزائف يرى «الوجود الحقيقي هو الإنسان المهموم بأسئلة الموجود التي لا تنتهي، ومن أشكال الوجود الزائف الموجودات الشريرة، والموجود المُستَهلكْ، والوجود الذى يُستَهلكْ نفسه، وينطبق عليهم وصف هيدجر: «الموجود في كل مكان، دون أن يكون في أي مكان، وهم مُدَعُوْ الأخلاق والتدين والأخلاق منهم براء»، ولكن كيف تنبئ الوجوه عن الموجود البشري؟ [في وجوه ووجود] يشير توفيق إلى تجربته وما يتمتع به من حدس من حداثة عمره، وعن أي موضع بالوجه تكون الحقيقة «يقول هيجل: العين يبصر بها الإنسان، ويكون مبصراً، ويقول برجسون إنها في السحنة»، وعن الابتسامة؟! «ليست هناك ابتسامة واحدة، هناك فعل الابتسام الذى تتعدد فيه دلالة الابتسامة على أنحاء شتى بحسب اختلاف السياق الذى توجد فيه» هناك «ابتسامة صفراء (الحقد والتشفي) وابتسامة السخرية والاستهانة وهناك ابتسامة الفرحة والبهجة والحبور، وهناك من يلطعون ابتساماتهم فوق وجوههم كأنها أقنعة» ويعقب توفيق «الوجه باب الروح، ومن ثم باب الوجود الباطني أي الحقيقي»/ عن جلال الموت تعتصر روح توفيق فيقول «عرفت الموت منذ طفولتي وشغلت به في صباي وشبابي ورجولتي، عرفته في صباي بشكل غامض في ملامح أمي الجميلة حينما كانت تحتضر، إذ ماتت عن سبع وثلاثين عاماً ولما أكن قد بلغت الرشد بعد» ويضيف توفيق «يصف هيدجر الإنسان أنه موجود مائت (متجه نحو الموت) وهو من مصادر القلق والهم الإنساني حينما يبدأ الإنسان يعي هذه الحقيقة»، ويفلسف توفيق إشكالية الموت مع المبدعين بأنه «المبدعون والخواص وحدهم يحاولون أن يقبضوا على اللحظة التي تنقضي وتفر من أيدينا باستمرار دون أن نستطيع أن نمسك بها، تخليد لحظات وإضفاء المعنى عليها في الفعل الإبداعي الذى يبقى بعد الموت، الكتاب: الخاطرات المؤلف: د. سعيد توفيق الناشر: دار العين الصفحات: 173 صفحة