تنادي كل القوي السياسية ومنها الجماعات الإسلامية بالدولة المدنية, فهل تتضمن تلك الدولة العلمانية؟.. وهل تشمل العلمانيين من الليبراليين والقوميين واليساريين؟.. وهل تعد العلمانية عقيدة تستبعد الدين من كل شئون المجتمع؟ ويثير هذا المصطلح الكثير من الخلط وسوء الفهم, نظرا لكون المصطلح مستوردا ودخيلا علي الحياة الثقافية والسياسية إبان فترة ضعف المجتمعات الإسلامية, هذا بالإضافة إلي أن المصطلح ذاته قد تعرض لثلاث مراحل من التطور والتوظيف في دول المركز الأوروبية. ولفهم العلمانية, يجب التعرض للظروف الخاصة بالتاريخ الأوروبي, فعلي عكس الكنائس الشرقية كانت البابوية ممثلة للكنيسة الكاثوليكية هي مركز الحياة الروحية والسياسية في أوروبا الغربية, وقد عبر عن ذلك البابا أنوست الثالث بقوله: إن البابا ملك في أمور الدين والدنيا, وإن اختيار الأباطرة ملك لمشيئته, ونتيجة لذلك كان للبابوية حقان أساسيان في الشئون السياسية, هما: أولا: حق الموافقة علي اختيار الأباطرة والملوك, وحق إنهاء شرعيتهم في الحكم بإصدار حرمانهم من رحمة الكنيسة. فقد أصدر البابا أنوست الرابع عام1245 م قرارا بحرمان وخلع فردريك هوهنشتاوفن(5121 0521 م) إمبراطور ألمانيا وإيطاليا وصقلية.. أما حق البابا في شن الحروب, فيبدو في خطبة البابا إربان الثاني في مجمع كليرمونت5901 م, بدعوة ملوك أوروبا إلي الحروب الصليبية واسترداد القدس من المسلمين. وفي ظل هذا الدور المحوري للبابوية, كان مصطلح علمانيLayman يعني كل من ليس له وظيفة دينية, فقد كان رجال الدين والفلاسفة في جانب, أما الحكام ورجال الإدارة والتجار ورجال البنوك وملاك الأراضي فهم علمانيون. وعلي العكس من ذلك, كان السائد في المجتمعات الإسلامية هو رجل السلطة ممثلا في السلطان أو الخليفة, الذي يعرفه الماوردي( ت:8501 م) بأنه نيابة عن النبي في حراسة الدين وسياسة الدنيا, وبذلك فللخليفة وحده حق شن الحرب, وكانت الشريعة هي المرجعية لكل من الخليفة ورجال الدين, وبذلك لم تعرف المجتمعات الإسلامية هذا الفصل الحاد بين ما هو ديني وما هو دنيوي, ولم تعرف كلمة علماني. استمرت البابوية في نشر الخراب والدمار في كل أنحاء أوروبا لتدخلها المستمر في الشئون السياسية للأباطرة والملوك, ونتيجة لاتصال المفكرين والعلماء الأوروبيين بالحضارة الإسلامية عن طريق ملوك النورمان في صقلية, وعن طريق الحروب الصليبية, أو عن طريق الأندلس تصاعدت حدة المعارضة للبابوية من قبل العلمانيين وطوائفهم المختلفة. وفي هذه الأثناء, طرأ عامل مهم لم يكن في الحسبان غير من موازين القوي بين رجال الدين والعلمانيين, ألا وهو وباء الطاعون, أو الموت الأسود, الذي اجتاح أوروبا عام7431 م, وقد فاقت الكارثة في تأثيرها تأثير الحروب والمجاعات. ولمحاولة وقف هجوم الوباء, لجأت البابوية إلي تفسيرين دينيين لم يكن لهما أي تأثير علي الوباء, أولهما هو أن الوباء انتقام إلهي نتيجة لانتشار الرذيلة, وثانيهما أن الوباء هو مؤامرة دبرها اليهود للقضاء علي المسيحيين, وهو ما أدي إلي حرق اليهود أحياء في العديد من المدن الأوروبية. جاء العلاج الحاسم في مواجهة كارثة الطاعون من قبل العلمانيين بتطبيق ما يعرف بإجراءات الحجر الصحي في المدن الإيطالية بحلول عام0541 م, والذي انتشر بعد ذلك في كل أوروبا, وقد شملت تلك الإجراءات: 1 دفن إجباري للموتي بالطاعون في حفر خاصة. 2 عزل المرضي بالطاعون وحجز عائلاتهم في منازلهم أو في أماكن مؤقتة. 3 سياسة دقيقة لانتقال البشر من المناطق المصابة إلي تلك التي مازالت خالية منه. أدي تطبيق الحجر الصحي البري والبحري إلي نجاح كبير في وقف انتشار الوباء واختفائه نهائيا بنهايات القرن الثامن عشر في أوروبا الغربية. ويمكن القول هنا إن إجراءات الحجر الصحي اعتمدت علي المنهج الفرضي الاستنباطي بافتراض أن الطاعون عدوي تنتقل بين الأشخاص وذويهم, وبين المناطق, وبين الدول, وبذلك كان الطاعون هو أول مرض مجهول الأسباب يتم علاجه عن طريق إجراءات المقاومة, فلم يكتشف العامل المسبب للطاعون إلا في عام4981 م, كانت مقاومة الطاعون نجاحا منقطع النظير للعلمانيين من أعضاء المجالس الصحية والأطباء ورجال الإدارة والحكام. وقد كان من نتيجة ذلك ازدياد دورالعلمانيين في إدارة الشأن العام, وتراجع دور الكنيسة في إدارة الحيز السياسي, وقد بدا لرجال الكنيسة بعد فشلهم في مقاومة الطاعون أنه ليس هناك أسلوب وحيد لإدارة المجتمع, وليس هناك حقيقة واحدة لتفسير الأشياء, وهو ما ذكره ابن رشد(6211 8911 م), الذي عاصر أوبئة الطاعون بالأندلس, حول وجود حقيقتين, الدين والعقل, وهما مكملان لبعضهما البعض كجناحي الطائر. تزامن مع نجاح العلمانيين في إنقاذ المجتمع الأوروبي من خطر الإبادة بالطاعون, وفي تعميم مفهوم النظام في إدارة الشأن العام إصلاح ديني أو فكري يتواءم مع هذه المنجزات, ففي تلك المرحلة الأولي من العلمانية, حدث الإصلاح الديني علي يد كل من مارتن لوثر(3841 6451), وكالفن(9051 4651).. وقد تزامن مع نجاح المرحلة الثانية للعلمانية في إطلاق الثورة العلمية والصناعية في القرن الثامن عشر ظهور فلسفة الأنوار والثقة في مرجعية العقل. أما المرحلة الثالثة والأخيرة من نجاح العلمانية في القرنين التاسع عشر والعشرين, فقد تزامنت مع المغالاة في مرجعية العقل. إذا كانت العلمانية هي أداة ومنهج كلي في إدارة المجتمع والدولة, فإن من خصائصها هو استخدامها المزدوج, فقد استخدمتها الدول الأوروبية في تنظيم مجتمعاتها والنهوض بها, لكنها استخدمتها في دول الأطراف التي استعمرتها بغرض آخر, وهو تفكيك هويتها الثقافية ونظمها الاجتماعية والاقتصادية لتصبح سوقا لتصريف منتجاتها. كأداة فإن العلمانية محايدة, فليس من المفروض علينا أن نتبع ما تزامن معها من أفكار ورؤي نشأت في أوروبا تتعلق بمرجعية الدين كما في مرحلتها الثالثة, بما أنها منهج وأداة, فإنه يمكن الجمع بينها وبين العقائد الدينية كالإسلام والمسيحية واليهودية, كما يمكن الجمع بينها وبين المذاهب السياسية كالليبرالية والقومية والاشتراكية, وبذلك, فإن الدولة المدنية تتضمن ضرورة العلمانية والعلمانيين.