وضعت هزيمة يونيو 67 حدا فاصلا فى طبيعة العلاقة بين المنبر وفلسفة الحكم عند الرئيس عبد الناصر. فقد تولى المنبر مسئولية تضميد جراح الهزيمة والاستعانة عليها بالصبر والصدق والإيمان بقضاء الله وقدره والاستجابة لاختبار قوة إيمان المؤمنين بمثل هذه الهزائم وحشد طاقات الجماعة لإزالة آثار العدوان. وتجاهل المنبر الفكر الاشتراكى وأفكار العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص واتجه نحو صبغ الصراع مع إسرائيل بصبغة دينية فحل الجهاد محل الكفاح واليهود محل الصهيونية. وكان من الواضح أن المنابر بتأثير هزيمة يونيو قد تجاوزت أفكار الرئيس عبد الناصر بل وتناقضت معها. ولم يطرأ عليها تغيير يذكر حتى معركة التحرير عام 1973 أى بعد تولى الرئيس السادات الحكم بنحو ثلاث سنوات. خلال تلك الفترة اتيح للمنابر أن تتولى معظم أمرها استجابة لمشاعر المصريين واحتياجاتهم فى التخلص من آثار الهزيمة وإعداد المجتمع لحرب كانت لازمة وحتمية. ولكن تلك الفترة أيضا كانت الأساس لتغير نوعى فى طبيعة الخطاب الدينى فى مصر وهو سيادة الجوانب الروحية والغيبية الأخروية والتى ظلت تتنامى كثيرا فيما بعد وتمهد التربة النفسية لنمو التيارات الدينية المتشددة فيما بعد. بعد انتهاء حرب 73 بدأ المنبر يعود إلى سابق عهده فى مسايرة سياسة الحكومة والدفاع عنها والنيل من خصومها. ولكنه أيضا تحول إلى أحد معاقل المعارضة السياسية للرئيس السادات بفعل تنامى القوى السياسية الدينية التى تحالفت معه ثم عارضته. فقد بدأ المنبر هجومه على الاشتراكية التى ظل يمتدحها سنوات طويلة. وامتد الهجوم ليشمل الاتحاد السوفيتى باعتباره البلد الأم للفكر الاشتراكى وطال الهجوم الممارسات الاشتراكية أثناء حكم الرئيس عبد الناصر وأصحاب هذا الاتجاه باعتبارهم ماديين ملحدين. بل إن المنابر قد استعانت فى نقد وتقبيح الفكر الاشتراكى بكتابات رأسمالية غربية. وقد ساندت الرئيس السادات فى هجومه على الناصريين والاشتراكيين ليصرف الأنظار عن تعثر برنامجه للسلام ولتخفيف حدة المعارضة لسياساته داخليا وخارجيا. ومع ظهور سياسات الانفتاح الاقتصادى استخدم المنبر لتهيئة المجتمع لما جاءت به سياسات الانفتاح فيما بعد. وهنا قدم المنبر صياغة جديدة لذات المفاهيم التى دافع عنها فى عهد الرئيس عبد الناصر. فأصبحت الأرزاق والمنزلة الاجتماعية قدرا إلهيا لامفر منه ولابديل عن الرضا به. ورددت المنابر مفاهيم مجتمع الحب والحقد التى رددها الرئيس السادات فى خطابه السياسى كثيرا دون دعوة حقيقية للتكافل الاجتماعى بين الأغنياء والفقراء . وأعاد الخطباء تفسير معنى الملكية العامة بشكل مناقض تماما لما تحدث به المنبر من قبل. فقد استخدم حديث النبى صلى الله عليه وسلم الناس شركاء فى ثلاث .... لتبرير التأميم وتدخل الدولة لضبط الأسعار فى الحقبة الناصرية ولكن الحديث ذاته استخدم لتفنيد التأميم وتدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى. بل إن الزكاة وهى أحد أركان الإسلام كانت فى الستينيات فرضا يجبر عليه المسلم تحقيقا لمجتمع العدل. وفى السبعينيات أصبحت فريضة حسابها على الله ولا يكره عليها المسلم. وبوجه عام اهتم المنبر بالمفاهيم الروحية والغيبيات التى تمنح النظام السياسى وجها دينيا يروق للمحافظين والبسطاء من المتدينين مثل عذاب القبر والقضاء والقدر والدعاء والأولياء وكراماتهم والزهد فى الحياة الدنيا والتوسل بحب الصالحين . وعلى الصعيد الخارجى يظهر عدو الأمة فى الستينيات على أنه تحالف من الإمبريالية والاستعمار والصهيونية بينما يظهر العدو فى السبعينيات على أنه تجمع قوى الإلحاد الشيوعى الراغبة فى نشر الفوضى واقتلاع شوكة الدين. وهو تحول له مغزاه من الناحية السياسية أكثر من أى شيء آخر. وخلال تلك الفترة حلت مفاهيم القدرية فى الرزق والمنزلة الاجتماعية وتأكيد السلام الاجتماعى محل المساواة والعدالة الاجتماعية التى سادت من قبل. وتمثل قضايا السلام أحد ابرز المعارك التى خاضها المنبر فى عهد الرئيس السادات تأييدا أومعارضة لسياساته. دخل المنبر معركة السلام متزامنا مع خطوات الرئيس السادات. فقد عالج المنبر قضية السلام بعد المبادرة باعتباره عملا من أعمال بطل الحرب والسلام الذى خاض الحرب بالسلاح واقتحم أرض اسرائيل بأغصان الزيتون. وكان هذا الموقف متفقا مع آمال المصريين فى تحقيق سلام عادل ينهى الصراع المرير مع اسرائيل. ومع تزايد المعارضة داخليا وخارجيا وتعنت اسرائيل بضم الضفة الغربية وتوحيد القدس والتوسع فى بناء المستوطنات تحولت المعالجة من الهجوم إلى الدفاع فى مواجهة قوى المعارضة السياسية والدينية بتبريرات نظرية تؤكد مشروعية السلام فى الشريعة الإسلامية وتجاهل كامل للأعمال التى قامت بها اسرئيل على حساب حقوق العرب. وهنا انقسم المنبر بين مدافع عن السادات ومعارض له والجميع ينطلق فى التأييد والمعارضة من خلفية دينية إسلامية. ويعد قانون الأحوال الشخصية آخر المعارك التى خاضها المنبر إلى جوار الرئيس السادات. فقد اعتادت المنابر خلال سنوات الستينيات أن تعالج قضايا المرأة من زوايا المشاركة السياسية وحق العمل ودورها فى بناء المجتمع والمساواة دون اقتراب من المظالم التى حاقت بها قانونا ومنها حمل المرأة عنوة وعن طريق الشرطة إلى بيت الطاعة وهو ما الغته وزارة العدل بمنشور إدارى عام 1967. أما فى سنوات السبعينيات فقد تغير الحديث على المنابر ليعالج زينة المرأة وتبرجها. ومع صدور القانون رقم 44 لسنة 79 بدأت معركة المنبر مع هذا القانون. فقد تصدى للدفاع عنه كثير من الشخصيات الدينية الرسمية لمواجهة منابر المحافظين التى اتهمت القانون بمخالفة الشريعة الإسلامية من حيث تقييد تعدد الزوجات وخروج المرأة دون إذن زوجها بينما يجوز الخروج فيه وحكم القاضى بالطلاق. واستطاع المنبر أن يعبر بمصر هذه الأزمة التى تربص بها المتشددون وتعد أبرز المعارك التى انتصر فيها المنبر فى نهاية الأمر لتختفى قضايا المرأة مرة أخرى من حديث المنابر حتى وفاة الرئيس السادات. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين