لاتمثل سنوات حكم الرئيس عبدالناصر حالة استثنائية ، عبر التاريخ الإسلامى فى التوظيف السياسى للمنبر ،وتوفير الغطاء الدينى لسياسات الحكام داخليا وخارجيا. غير أن ما يميز التجربة الناصرية هو مشروعها التنموى الذى استجمعت من أجله كل الطاقات والقدرات المتاحة، ومنها الوعظ الدينى وهو ما لم يتحقق لأى نظام سياسى آخر سابق عليها أو لاحق بها. غير أن للمنبر فى الحقبة الناصرية تجربتين تفصل بينهما نكسة يونيو 67. بدأت حكومة الثورة إعادة تشكيل السياسات الدينية عقب الصدام الأول مع الإخوان المسلمين عام ،1954 وكان ذلك بمعونة قوية من الأزهر لتعبئة الأئمة المحليين ومعلمى الكتاتيب لمواجهة نحو 1700 فرع ،كان الإخوان قد أنشأوها فى الريف والحضر على السواء. وبعد ذلك بنحو عامين بدأت الحكومة الإفصاح عن سياساتها الدينية الجديدة بإبطال المحاكم الشرعية واستيعابها فى قضاء مدني. وفى العام التالى تم تأميم الأوقاف الخيرية بهدف تقويض الأساس الاقتصادى للمؤسسة الدينية. وفى عام 1960 صدر قانون تولت بموجبه وزارة الأوقاف الإشراف على المساجد . وفى العام نفسه أنشئ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وفى عام 1961 صدر قانون تطوير الأزهر وأصبحت التربية الدينية مادة دراسية إجبارية وروجع محتوى الكتب الدينية . وفى عام 1964 أنشئ مجمع البحوث الإسلامية. باختصار لم تبق مؤسسة دينية واحدة على حالها التقليدى الذى ورثته حكومة الثورة عام 52. فقد أصبحت المؤسسة الدينية أكثر حيوية وأكثر قدرة على القيام بمهامها الدينية داخل مصر وخارجها فى إطار فلسفة الحكم السائدة آنذاك. ربما كانت قضية التبرير الدينى لاشتراكية عبد الناصر هى أبرز معارك المنبر السياسية بدءا من عام 1961 وحتى هزيمة يونيو 67. ولايزال الكثير من الدراسات بل والآراء العامة تنتقد مسلك المنبر فى تلك الفترة وتراه قد انحرف دينيا لأسباب سياسية. والحقيقة هى أن عبد الناصر والمنبر قد ظلمتهما قضية الاشتراكية بسبب محاولات الخصوم ربط هذه الاشتراكية بالشيوعية، وما تنطوى عليه من إلحاد. فلم تكن اشتراكية عبد الناصر فلسفة متكاملة للحكم ، ولم تكن ملحدة. وكذلك المنبر الذى دافع عن مفاهيم الأمانة والعمل والحرية والصدق والتكافل والعدل والمساواة. وهى قيم إنسانية عامة مطلقة، يمكن أن يحتويها أى نظام سياسى رشيد ، إلا أن ربط هذه المفاهيم باشتراكية عبد الناصر جلب عليها النقد والخصومة. حتى إن هؤلاء الخصوم لم ينتقدوا كتابات مفكرين مصريين قبل الثورة عن الاشتراكية الإسلامية. ولأن ثورة يوليو ورثت عن النظام السابق مهمة إدارة الصراع العربى الإسرائيلى فقد استدعت الأحداث المنبر لمعالجة القضية التى كانت تمثل محورا أساسيا فى سياسات عبد الناصر. وبوجه عام تعامل المنبر مع القضية باعتبارها صراعا بين العرب والصهيونية دون التركيز على اليهود أو حتى كلمة اسرائيل. وهو ما سوف يتغير بعد يونيو 67. حيث بدأ الصراع يظهر على أنه صراع بين المسلمين واليهود، وتردد اسم إسرائيل كثيرا على المنابر فى السنوات التالية. وتمثل هذه القضية أحد مجالات التناقض بين عبد الناصر الذى رفض مطالب اعتبار المعركة مع إسرائيل معركة دينية بعد يونيو 67 وبين المنابر التى كانت قد تخلت عن البعد القومى للصراع وبدأت فى حشد المشاعر الدينية فى الصراع مع إسرائيل . هذا التناقض يفسره عجز عبد الناصر نفسه عن أن يقدم تفسيرا مقنعا لهزيمة 67. هذا العجز أفسح المجال واسعا أمام المشاعر الدينية لتدخل حلبة الصراع على غير ما كان عبد الناصر يفكر أو يريد. ومن القضايا السياسية المهمة التى تم فيها استدعاء المنبر إلى ساحة الصراع ، قضية الحلف الإسلامى الذى اعتبره عبد الناصر حلفا معاديا له. وقد تزامنت معركة الحلف الإسلامى مع أحداث الصدام الثانى مع الإخوان المسلمين عام 1965. وكان من الضرورى ألا يظهر النظام السياسى فى مصر بمظهر المعارض للإسلام داخليا بمواجهة الإخوان المسلمين وخارجيا بمعاداة الحلف الإسلامي. وقد ارتكز المنبر فى معالجة قضايا الحلف الإسلامى على ثلاثة محاور أولها تفنيد الأساس الدينى لذلك الحلف واعتباره أداة استعمارية جديدة. ثم تبرير اشتراكية عبد الناصر فى مواجهة معارضة الداعين للحلف لتلك الأفكار التى اعتبروها خروجا على الإسلام. وأخيرا الدفاع عن العروبة بتأكيد أن القرآن عربى والنبى عربى والصوم فى شهر عربى والمساجد التى تشد إليها الرحال تقع فى أرض عربية. وكان هذا خلطا أملته الاعتبارات السياسية. وعلى صعيد التنمية أسهم المنبر بدور بالغ الأهمية فى عملية التحول الاجتماعى وإعداد المجتمع للتصنيع وزيادة الإنتاج والإخلاص فى العمل وإتقانه. فقد سيطرت الأفكار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على محتوى الوعظ الدينى فيما لم تتعد الأفكار الروحية من الإسلام نسبة 20% من إجمالى خطب الجمعة المذاعة خلال السنوات السبع السابقة على هزيمة يونيو التى جاءت لتقلب موازين الوعظ الدينى رأسا على عقب ،وليبدأ الانسحاب من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة وتمهد الطريق إلى ما أصبحنا عليه الآن لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين