لقد كان من أثر عناية رسول الله صلي الله عليه وسلم بتعليم أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات أن حفل العهد النبوي بنماذج مشرقة لنساء قدمن تراثا فقهيا متميزا; فقد كانت المرأة حاضرة في المجتمع العلمي منذ اللحظة الأولي لظهور الإسلام,فكانت تتعلم وتعلم وتفتي,وكان حرص النساء علي العلم الشرعي والاهتمام به في ذلك العهد واضحا جليا,حتي إن النساء قلن لرسول الله صلي الله عليه وسلم اجعل لنا يوما كما جعلته للرجال. فجاء صلي الله عليه وسلم إلي النساء فوعظهن وعلمهن, صحيح البخاري421/1]. وقد كان من أثر ذلك أن كثر في الصحابيات المحدثات والفقيهات; فقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة لأكثر من ألف وخمسمائة امرأة منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات. وكان أكثر الصحابيات علما بالفقه أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن; وخاصة عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش, وممن اشتهر عنهن الفتيا من غيرهن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما, وها هي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فقيهة أهل المدينة وأكثرهن تلقيا للعلم; قال عنها صلي الله عليه وسلم:فضل عائشة علي النساء كفضل الثريد علي سائر الطعام,صحيح البخاري1252/3]: فقد كانت رضي الله عنها من أعلم الناس بأحكام الإسلام,قال عنها الإمام الزهري:لو جمع علم عائشة إلي علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل,الإجابة للزركشي ص56]. وتميزت أم المؤمنين عائشة بهذه المنزلة في العلم لعدة عوامل; منها ما وهبها الله من الذكاء والفطنة وسرعة الحافظة, ومنها زواجها في سن مبكرة من النبي ونشأتها في بيت النبوة مع كثرة مانزل من الوحي في حجرتها, ومنها حبها للعلم والمعرفة, قال عنها ابن أبي مليكة: كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتي تعرفه. صحيح البخاري51/1 وقال ابن كثير لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها,وفصاحتها وعقلها, البداية والنهاية129/3]. وقد كانت رضي الله عنها مرجعا لأصحاب رسول الله عندما يختلفون في أمر;فيستفتونها ويجدون لديها حلا لما أشكل عليهم, وكانت تحث سائلها ألا يستحي من عرض مسألته,وتقول له سل فأنا أمك,يقول الصحابي الجليل أبو موسي الأشعري رضي الله عنه:ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما,سنن الترمذي705/5]. وقد اشتغلت أم المؤمنين عائشة بالفتوي من خلافة أبي بكر إلي أن توفيت,ولم تكتف رضي الله عنها بنقل ما عرفته من النبي صلي الله عليه وسلم وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكما في الكتاب أو السنة,حتي قيل:إن ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها. والأعجب من ذلك أنها استقلت ببعض الآراء الفقهية التي خالفت بها آراء الصحابة,كما استدركت علي كبار الصحابة عدة مسائل في الفقه وغيره ومن ذلك استدراكها علي عمر رضي الله عنه نهيه عن البكاء علي الميت,واستدر اكها علي ابن عمر قوله: إن في القبلة الوضوء: حيث قالت: كان رسول الله يقبل وهو صائم ثم لا يتوضأ.وغير ذلك كثير مما جمعه الزركشي في كتابهالإجابة لما استدركته عائشة علي الصحابة. وعلي هذا النحو من العلم والفقه نجد أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها; فقد كانت كما و صفها الذهبي: من فقهاء الصحابيات,سير أعلام النبلاء203/2], وكانت أيضا من الأذكياء الحكماء; ويدل علي ذلك استشارة رسول الله صلي الله عليه وسلم لها عند صلح الحديبية. واشتهرت أم سلمة رضي الله عنها بعد وفاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالرواية والفتيا لكونها آخر من تبقي من أمهات المؤمنين; الأمر الذي جعل مروياتها كثيرة; إذ جمعت بين الأحكام والتفسير والآداب والأدعية وغيرها. ومرويات أم سلمة رضي الله عنها معظمها في أحكام العبادات كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج, وكذلك في أحكام الجنائز والأدب والنكاح وغير ذلك. ومن هذه النماذج وغيرها يظهر لنا أن المرأة المسلمة ضربت بسهم وافر في جميع ميادين الحياة عبر تاريخ الأمة الإسلامية,فقد نبغ في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الكثير من العالمات المبرزات في أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية الإسلامية,بما لايدع مجالا للشك في أن الإسلام أعطي للمرأة حقها, وصان كرامتها,وحثها علي العلم,وأعدها للقيام بدورها في المجتمع. المزيد من مقالات د. علي جمعة