في الانتخابات الرئاسية السابقة استمعت إلي أحد مرشحي الرئاسة وهو يعد المصريين بنعيم الصحة ورقي التعليم ونعومة الطرق وكفاءة المرافق وازدهار الاقتصاد. الغريب أن الرجل وعدنا بكل ذلك ولم يطلب منا شيئا في المقابل سوي اختياره رئيسا للجمهورية. معادلة غريبة أشبه بالعلاقة بين فاوست والشيطان في المسرحية الألمانية الشهيرة. وشيئا فشيئا اكتشفت أن ذلك هو خطاب المرشحين الآخرين بمن فيهم الرجل الذي تم انتخابه رئيسا. وقتها أدركت أن ظروف التحول والتنمية لم تحن بعد وعزفت عن المشاركة في تلك الانتخابات. علمتنا تجارب التقدم أن في حياة الأمم والشعوب ظروفا موضوعية مواتية للتحول السياسي والاجتماعي وصعود تلال التنمية. هذه الظروف الموضوعية الملائمة لا تتوافر كثيرا. فإذا اضاعتها أمة كان عليها أن تنتظر طويلا حتي تستعيدها مرة أخري. وأحسب أن مصر تعيش هذه الظروف الآن وأخشي أن تفقدها. ولكن الظروف الموضوعية وحدها لا تصنع نهضة ولاتحقق تحولا حقيقيا أو تنمية شاملة ولكنها تنتظر قيادة علي وعي بتلك الظروف وكيفية توظيفها. وتحتاج أيضا إلي عهد وميثاق ينص علي توزيع مسئولية التحول والتنمية بين الحاكم والمحكومين. فإن اجتمعت الظروف الموضوعية والقيادة الواعية الملهمة, فإن فرص صعود تلال التنمية تزداد كثيرا. حدث ذلك في مصر من قبل مع محمد علي ومع جمال عبد الناصر لولا المؤامرات الخارجية في الحالتين. أما خارج مصر فقد تكررت التجربة كثيرا في فرنسا واليابان وماليزيا وسنغافورة والصين والبرازيل وكينيا وغيرها. وإذا كانت الظروف الموضوعية مهيأة في مصر لتحقيق تنمية شاملة, فإن وجود القيادة اللازمة لإدارة تلك الظروف لم يحسم أمرها بعد. هناك جدل محتدم في مصر حول ترشيح الفريق السيسي الذي يبدو أنه أوفر الرجال حظا لهذا المنصب. فالرجل يحظي بشعبية هائلة في مصر وهي شعبية أخشي عليه منها لأنه كلما زادت شعبيته في الانتخابات, زادت المطالب عليه بعد ذلك. كما أنني أخشي أن يستنفد المصريون حماسهم للرجل في الإنتخابات حتي إذا جاء وقت العمل معه والاستجابة لما يدعو إليه لم يجد سوي جهد قليل ومطالب كثيرة. إلا أن هذا الحماس الراهن لترشيح الفريق السيسي يمكن أن يكون بداية واعدة لعهد جديد. وهي قبول شروط الرجل للعمل رئيسا للدولة. نحن لانريد منه برنامجا انتخابيا فهي بدعة سياسية جاءتنا من الغرب, حيث الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي السمة السائدة لتلك البلدان. لقد ثار المصريون ضد مبارك يطالبونه بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية فيما كانت أدواته الإعلامية العامة والخاصة تتغني بإنجازات برناجه الانتخابي الذي بدا علي الورق رائعا بكل المقاييس في توفير الخبز وتوسيع الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية. مصر في ظروفها الراهنة تحتاج إلي عهد أو وثيقة للحكم تحدد أمام الضمير العام مسئوليات الحاكم وواجبات المحكومين. وثيقة ترسخ مفهوم الشراكة بين الحاكم والمحكوم في إنجاز التحول والتنمية نستفيق بها علي حقيقة أن القيادة مهما بلغت حكمتها لن تقضي وحدها علي فقر ولن تشفي أحدا من مرض ولن تطرد أشباح الجهل من العقول الكثيرة. التنمية عبء ولن تتحقق إلا إذا تحملنا هذا العبء معا. علي جانب القيادة السياسية نريد عهدا يتسم فيه الحكم بالعدل والنزاهة والشفافية وإعمال القانون. هذه الصفات الأربع تغني كثيرا عن الوعد بإنشاء آلاف المصانع واستصلاح دلتا جديدة وبناء آلاف المدارس والمستشفيات وتوظيف ملايين العاطلين. فهي جميعها مجرد أرقام وإذا عذبت الأرقام فسوف تعترف لك بما تريد في الوقت الذي تريد. وقد عانت الأرقام في هذا البلد كثيرا وطويلا. هذه الصفات الأربع كفيلة بإعادة الوئام بين المصريين والتكاتف من أجل المعركة الكبري من أجل تنمية بلادنا وهي قادرة علي أن تدفعنا نحو إدراك الفروق بين مصالح الوطن ومغانم الأفراد أو الفئات أو الجماعات. لانريد حاكما يقايض بين مصلحة الوطن واستقرار نظامه ولايقيد الحرية بدواعي الأمن. وأن يلتزم بالدستور نصا وروحا. وأن يحقق التناغم والتزامن بين محركات التغيير في بلادنا. فلا نتطور اقتصاديا ونتخلف اجتماعيا ونتوقف ثقافيا ونتدهور علميا وننشط سياسيا. وعلي الجانب الآخر نريد الوثيقة أن تحدد مسئوليات المواطنين في العهد القادم. نريد التزاما جماهيريا بوقف أي مطالب فئوية لزيادة الأجور لخمس سنوات علي الأقل. نريد التزاما بقبول سياسة جديدة حازمة وصارمة في توزيع الدعم الذي أنهك الاقتصاد المصري وأفقده كل عافية ممكنة وأطال عمر الفقر في بلادنا. وفي هذه الوثيقة يلتزم المصريون بنظام جديد موحد للعمل كما وكيفا. ليست هناك دولة واحدة ناهضة أو علي أبواب النهضة في المناطق الحارة أو الباردة يبدأ العمل الحكومي فيها في التاسعة والنصف وينتهي في الواحدة ظهرا ولدينا مصريون يعملون في القطاع الخاص من الثامنة والنصف وحتي الرابعة والنصف مثل بقية الناس في الدنيا بأسرها. ونريد لقيمة العمل أن ترتقي ولو قليلا علي سلم القيم لدي المصريين. نريد التزاما صارما باحترام القانون والانصياع له. قائمة مسئوليات الشعب طويلة. فالخروج من دوائر الفقر والجهل والتخلف مسئولية الشعوب أولا في ظل إدارة حكومية رشيدة. وحينما تتحقق الواجبات والمسئوليات عند القيادة وعند الشعب التي تتضمنها وثيقة الحكم في العهد المقبل, لك أن تتحدث عن إنجازات يشهد بها الواقع ويشعر بها المواطن قبل أن تتحدث بها وسائل الإعلام أو تتضمنها البرامج الانتخابية. وسوف تنجو حينها الأرقام من العذاب. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين