لم يحدث أن صدر كتاب يتناول بزوغ التلازم بين الدين والميديا, أو بالأدق بين عودة الدين والميديا التكنولوجية الحديثة المتجسدة في أعلي مراحلها وهي الانترنت إلا أن يكون هذا الكتاب الذي صدر في عام2001 تحت عنوان الدين والميديا. وقد اشترك في تأليفه خمسة وعشرون من كبار المفكرين في الفلسفة واللاهوت وعلم الاجتماع وعلم السياسة. وقد نوه هؤلاء بتلازم ظاهرة جديدة هي ظاهرة الأصولية الجماهيرية مع ظاهرتي الدين والميديا. هي أصولية لأنها تقف عند المعني الحسي للنص الديني, ثم هي تتصف بأنها جماهيرية بفضل القنوات الفضائية التي هي من انتاج الثورة العلمية والتكنولوجية. وبهذا المعني تكون الأصولية الجماهيرية مهددة للعقلانية والعلمانية التي هي أيضا من انتاج تلك الثورة ذاتها والتي بسبب هذا التهديد قال ماركس في كتابه مخطوطات1844 الاقتصادية والفلسفية: الدين أفيون الشعوب. ثم قال فرويد في نهاية كتابه المعنون مستقبل وهم(1928): إن العلم ليس وهما إنما الوهم يكمن في أن تتصور أن ثمة طريقا آخر غير العلم يمكن أن يعطيك ما عجز العلم عن إعطائك إياه. ومع ذلك عاد الدين في رأي أولئك المفكرين الكبار. والسؤال اذن: ما المقصود بعودة الدين؟ عند الأصوليين العودة إلي الدين تعني العودة إلي نقائه بعد أن لوثته الحضارة العقلانية العلمانية. وإذا كانت هذه الحضارة من شأنها استبعاد الصدفة لأن الأحداث الدنيوية محكومة بقوانين علمية ليس في الامكان الفكاك منها فإن من شأن نقاء الدين استدعاء المعجزة. لماذا؟ لأن المعجزة تستلزم التدخل الإلهي, ومع هذا التدخل تتسم المعجزة بأنها مطلقة. لماذا؟ لأنها بلا علة طبيعية, ومن ثم تكون فائقة للطبيعة فيشعر معها الانسان وكأن لديه قوة سحرية يحدث بها تأثيره علي قوي الطبيعة. ولكن مع تقدم العلم تتواري المعجزة, فهل يتواري ما هو فائق للطبيعة والذي يشير إلي ما هو الهي؟ إذا جاء الجواب بالإيجاب فلا معني للحديث عن عودة الدين, أما إذا جاء الجواب بالنفي فالقول ب عودة الدين يصبح قولا مشروعا. ولكن بأي معني يكون الدين؟وما دور الميديا في الترويج لذلك القول المشروع؟ أسئلة شائكة أستعين في الاجابة عنها بما ورد في ذلك الكتاب من أفكار للاهوتي بروتستانتي اسمه ولفريد كانتول سميث. مات في تورنتو بكندا في7 فبراير عام2000 وكان عمره ثلاثة وثمانين عاما. كان مديرا لمركز دراسات الأديان العالمية الملحق بجامعة هارفارد, وأسس معهد الدراسات الاسلامية بجامعة مكجل بكندا. ترجمت مؤلفاته إلي معظم اللغات الأوروبية والآسيوية, ومن بينها مؤلفه المعنون معني الدين ونهايته. فكرته المحورية أن الدين غير قابل للتعريف لأنه ليس له مقابل في العالم الخارجي, إذ هو ليس شخصا. وأفضل من ذلك أن نشير إلي شخص معين ونقول إنه متدين أي إن له إيمانا. ومن هنا يتعدد الدين بتعدد المؤمنين. ومن هنا أيضا ننشغل بالإيمان الديني وليس بالدين. ومع ذلك فإن كانتول لا يتناول هذا الايمان علي أن له كيانا مستقلا, إذ هو يتغذي بالتراث ويصب فيه ويتشكل به. ومع ذلك أيضا فهذا الايمان ذاته يسبق التراث ويفارقه, وفي الوقت ذاته يصونه. ومع ذلك للمرة الثالثة فانه ليس في امكاننا تعريف الايمان ولكن في امكاننا تحديد مكانه حتي نستطيع العثور عليه. والمفارقة بعد كل ذلك أن سميث يري أن الايمان هو المقولة الانسانية الأساسية, أي المقولة التي لا علاقة لها بأي تراث ديني إنما لها علاقة بالانسان أيا كان. وبناء عليه فإن المحنة التي تواجهها البشرية تكمن في التعامل مع الظاهرة الدينية وليس مع الشخص المؤمن. والمفارقة هنا أنني كنت علي علاقة مع الفريد كانتول سميث وصديقنا المشترك الأب جورج قنواتي مدير معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان بالقاهرة, وكان في حينها منشغلا بالحوار الإسلامي المسيحي. وكنت أنا منشغلا بإقناعهما بضرورة ادخال مفهوم العلمانية في تناولهما للمسألة الدينية ولكن بلا جدوي. وكان السؤال الذي يدور في ذهني هو علي النحو الآتي: لماذا هذا التجاهل للعلمانية؟ هل لأن عودة الدين حدثت بسبب سيادة العلمانية في أوروبا, وبالتالي تكون العلمانية هي العدو الذي يجب قهره في صمت؟ ولكني أجيب بسؤال: ما هو الشكل الذي اتخذه الدين في عودته في القرن العشرين؟ إنه اتخذ الشكل الأصولي, أي الشكل الذي يرفض إعمال العقل في النص الديني, ويكفر من يناقض هذا الشكل. ولا أدل علي سيادة هذا الشكل الأصولي من المشروع الأصولي الذي أقرته الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم في عام1988 وتبنته جامعة شيكاغو وأصدرته في خمسة مجلدات. ولاأدل علي ذلك أيضا من أن الميديا الآن, أو بالأدق القنوات الفضائية, تروج للأصولية بوجه عام وللفتاوي الأصولية بوجه خاص مع اعلان عدائها للعلمانية. وتأسيسا علي ذلك يمكن القول إن الصراع القادم لن يكون إلا بين الأصولية والعلمانية, ومن ثم يمكن تصويب عنوان الكتاب المذكور في مقدمة هذا المقال علي هذا النحو: الأصولية الدينية والميديا. لمزيد من مقالات مراد وهبة