عندما نقترب من مشروع التعديلات الدستورية, نجد أننا بحاجة الي قراءة موضوعية له في لحظة فارقة تتجاذبها صراعات عدة بين انظمة فاشية سقطت وبين ثورة قامت بفعل الحراك الشعبي الجارف المتطلع لحياة كريمة واسترداد حقوق استلبت وبناء دولة حديثة تحقق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية, وهي صراعات تجاوزت الأعراف السياسية لتدخل بنا في دوائر الإرهاب والتدمير من جانب تلك الأنظمة بعد ان تبدد سعيها للسيطرة علي مقاليد الوطن الذي كانت ترتب له لعقود عدة اقتربت من القرن. وقد ثار حول مقدمة الدستور( الديباجة) جدل صارخ, اتسع بما يتجاوز مجرد التخوفات المشروعة, فكان في بعضه انعكاسا لصراعات القوي الغاربة سعيا للتشكيك في الدستور بجملته, وظنا منهم أن تعويق الاستفتاء عليه يبطل خريطة الطريق التي تنتقل بنا الي تحقيق اهداف الثورة, ويكون البديل عودة نظامهم مجددا. صحيح ان الديباجة هي جزء لا يتجزأ من الدستور لكنها تقرأ في ضوء اتساقها مع بقيته وفق نص المادة227 منه يشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجا مترابطا, وكلا لا يتجزأ, وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة. ومن المستقر أن لجوء المشرع البرلماني للديباجة يأتي في حالة غموض نص في الدستور يتطلب الوقوف علي نية المشرع الدستوري, مثلما يلجأ لمضابط جلسات اللجنة التي وضعته, وهنا نأتي الي ما ورد بالديباجة نحن الآن نكتب دستورا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة, حكومتها مدنية., فهل قصر الدستور في بيان طبيعة الدولة ومن ثم الحكم, حتي يقتصر توصيف المدنية علي الحكومة؟, وما هو تعريف الحكومة؟. الحكومة هي منظومة الحكم في الدولة ولذلك فلا تقتصر علي الإدارة التنفيذية أو السلطة التنفيذية بل تمتد لتشمل السلطتين الأخرتين القضائية والتشريعية, والتي بدونهما لا يستقيم ادارة شئون الدولة, فضلا عن ان محاور الدولة قد بينتها مواد الدستور بوضوح لا يزاحمه اجتهاد في التأويل, فمصر وفق المادة الأولي نظامها جمهوري ديمقراطي, يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون, وفي المادة(4) السيادة للشعب.. يصون وحدته الوطنية التي تقوم علي مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين, وفي المادة(9) تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين, دون تمييز, وفي المادة(47) تلتزم الدولة بالحفاظ علي الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة. نحن أمام تحديد واضح لأركان الدولة التي تقوم علي: الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون, ومبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز, وتقر بتنوع روافد الثقافة والحضارة المصرية, وما هي الدولة المدنية خارج هذه الأركان؟. ويقر الدستور قواعد تجرم لأول مرة الخروج عن قيم الدولة المدنية, ففي المادة(53) وبعد ان يؤكد المساواة بين كل المواطنين في الحقوق والحريات والواجبات العامة, وعدم التمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللغة أو الإعاقة أو المستوي الاجتماعي أو الانتماء السياسي أو الجغرافي أو لأي سبب آخر. ولأول مرة يرد نص يجرم ويحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله, ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم(مادة63), وهو هنا بوضوح يغل يد من يكرسون للحلول العرفية التي تستند الي مرجعيات طائفية خارج الإطار القانوني المدني عصب الدولة المدنية, ونتوقف عند المادة64 التي تنص علي ان حرية الاعتقاد مطلقة, ولا يقصرها علي الأديان المسماة بالسماوية. وتتأكد مدنية الأحزاب التي تتنافس علي تشكيل البرلمان, الضلع الثاني في منظومة الحكم, فتنص المادة(74) علي أنه لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي, أو قيام أحزاب سياسية علي أساس ديني, أو بناء علي التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو علي أساس طائفي أو جغرافي, أو ممارسة نشاط معاد لمبادئ الديمقراطية, أو سري, أو ذي طابع عسكري أو شبه عسكري, وهنا نكون أمام حظر للأحزاب الدينية والعسكرية, بكلمات واضحة, ولعل هذا يتطلب استحداث آلية تراقب الأداء الحزبي علي الأرض وتقدم تقاريرها وملاحظاتها للقضاء حال مخالفة الأحزاب لهذا صراحة أو التفافا. ثم يقصر الدستور مهمة الرقابة القضائية علي دستورية القوانين واللوائح وتفسير النصوص التشريعية علي المحكمة الدستورية دون غيرها( مادة192), ومن المستقر ان قواعد هذه المحكمة تتضمن التزامها بكل المصادر الملزمة ومنها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر ومن ضمنها منظومة وثائق حقوق الإنسان الأممية, وهنا غلت يد اية جهات اخري عن التصدي لتفسير ما سمي بمواد الشريعة أو الهوية. ولا يمكن ان تتوقف قراءتنا للدستور دون التوقف عند المادة(235) والتي تنص علي يصدر مجلس النواب( البرلمان) في أول دور انعقاد له بعد العمل بهذا الدستور قانونا لتنظيم بناء وترميم الكنائس, بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية, هنا نحن أمام الزام للبرلمان في مدة محددة بتفكيك معضلة ترميم وبناء الكنائس تحديدا, التي ظلت ورقة تتلاعب بها الأنظمة المتعاقبة لنحو ستة عقود ويزيد. علي ان هذا كله يستوجب ثلاثة أمور; الأول ان نحرص كلنا علي المشاركة في الاستفتاء علي هذه الوثيقة الدستورية, والثاني أن نقول نعم للدستور حتي نقطع الطريق علي عودة النظام الفاشي السابق, الأمر الثالث ان نعمل منذ الآن وبجد علي المشاركة الفاعلة ترشحا وانتخابا في معركة البرلمان القادمة, فهو المنوط به ترجمة هذا الدستور الي حزمة من القوانين التي تضبط العلاقة علي الارض بين كل فئات المجتمع وبينها وبين الحكام, وعليه تتوقف مسيرة الحقوق المدنية وطبيعة الدولة في المرحلة القادمة, فمازال خطر الارتداد الي الدولة الدينية قائما, لو تقاعسنا او تراجعنا عن المشاركة. لمزيد من مقالات كمال زاخر موسى