تعرف الازمات الصامتة بتلك التي تواجه المجتمع ولايواجهها, ولعل أبرزها في حالتنا أزمة العقل الذي يشكله نظام التعليم وتفاعله مع قيم العدالة والديمقراطية. ويفترض نموذج النمو الاقتصادي ان تحقيق معدلات عالية منه كفيل بتوفير جودة الصحة والتعليم وبالاقلال من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية. غير أن التجارب أوضحت عدم صحة هذا الافتراض حيث أن نموا مرتفعا لا يؤدي بالضرورة الي مواطنين أصحاء ومستنرين والي مجتمع تتوافر فيه الفرص الجيدة المتكافئة لكل الفئات الاجتماعية, وذلك بخلاف نموذج تنمية الانسان الذي يرتقي بقدرات المواطن في التفكير السليم حول قضايا السياسية وفي الحكم بفهم واقعي ومطلع علي القيادات السياسة وفي الادراك بمساواة أقرانه معه في الحقوق بصرف النظر عن خلفيتهم الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية, وهو النموذج الذي يحفز الاهتمام بحياة ومشاكل الآخرين وبمصلحة الوطن ككل لا فئة منه فقط والذي يعمق الاستيعاب بالقضايا المتعلقة بالحياة الانسانية, هذا ما يجب ان يوفره نظام التعليم من قدرات للمواطنين اذا اردنا ترسيخ الديمقراطية لانه بدون المساندة التي يقدمها المواطن المتعلم بشكل جيد لايمكن للديمقراطية ان تدوم, وكما ان نظام التعليم لن يعتبر فاعلا في هذا الصدد اذا اقتصرت جودته علي الفئة القادرة وعليه فإن استهداف نظام تعليمي عام جيد صار مطلبا عاجلا وملحا لتحقيق أهداف موجتي الثورة في يناير 2011 ويونيو .2013 لقد تأسس علم أصول التدريس علي الحجة والبرهان والمناقشة والتفكير النقدي, فالكل متساو في الحوار وبالتالي لاينظر للنقاش علي كونه نوعا من المصارعة يلزم فيها هزيمة وإذلال الآخر أو علي أنه حرب مع عدو مما يفسد منذ البداية الالتقاء حول أرضية مشتركة والوصول الي حلول وسط ومما لايؤسس لثقافة سياسية تؤدي الي المواطنة الديمقراطية, ولذا نجد الجامعات في الخارج تعطي حديثا مجموعة من المناهج في الفلسفة والدراسات الانسانية الاخري وذلك في كل الكليات مهما تنوع تخصصها الاساسي, ولقد تم هيكلة جامعاتنا علي النمط الاوروبي القديم أي حول فروع المعرفة الاحادية للتخصص العلمي والمستمدة ايضا من نهج مماثل في الدراسة الثانوية وليس حول النموذج المتقدم للعلوم الانسانية, ولا اعتراض بالطبع علي تخصص فني ومهني عالي المستوي ولكن لاتقل عنه أهمية تنمية القدرات المرتبطة بالعلوم الانسانية وبالفنون التي تعمق التفكير النقدي والتخيل الجريء وفهم الخبرة الانسانية والعالم الذي نعيش فيه, وكما ان الابتكار والتجديد يتطلبان عقولا مبدعة ومنفتحة ومرنة والتي تشكلها قدرات التخيل من خلال فنون الموسيقي والمسرح والشعر والرسم والرقص. كانت مدرسة الشاعر الكبير طاغور- الحائز علي جائزة نوبل في الآداب عام 1913- غير تقليدية من حيث التدريس خارج الفصول لتشجيع الطلاب علي ممارسة حريتهم والاعتماد علي قراراتهم وكانت لتجربته الرائدة في ابتكار اساليب جديدة للتعليم تأثير واسع علي منهجية طلب العلم في اوروبا واليابان وامريكا, واما الجامعة الشهيرة فيسفا باراتي التي أنشأها فلقد أدخلت العلوم الانسانية والفنون في كل فروع وتخصصات الدراسة باعتبارها تؤسس للقيم التي تفرز مواطنا مشاركا ومنتجا ونشطا وبارعا في التحليل والفضول البناء وذلك بفضل التمكين الذي يحصده من الحوار والحجج والبراهين والمناقشات اضافة الي الفنون المتنوعة, ومنذ الستينيات من القرن الماضي اتبعت معاهد الهند المرموقة في التكنولوجيا والادارة نهج طاغور في تقديم العلوم الانسانية لكل طلابها مما كان له أكبر الاثر في التقدم العلمي للهند. ورأي فريدريتش فرويدل الالماني صاحب فكرة ومؤسس روضة الاطفال في القرن 19 - ان أنشطة الطفل الذاتية هي أساس التعلم الجيد وان روضة الاطفال هي مكان يتعلم وينفتح فيه ذهن الطفل من خلال ممارسة اللعب بالاشياء مما يدفع الي التفكير النشط ويشجع علي الاستكشاف والفضول, وفي القرن التاسع عشر ايضا ركز هوراس مان رائد التعليم العام الامريكي- علي أهمية التعليم المجاني للكل وعلي انشاء المكتبات العامة المجانية وعلي وضع معايير مرتفعة للتدريس في المدارس الحكومية واعتبر ان الديمقراطية لا يمكن أن تستقر في غياب مواطن متعلم ونشط ومنتج, ولاغرابة صدور- بعد أكثر من مائة عام علي ذلك- الدراسة الامريكية أمة في خطر نتيجة تدهور التعليم العام في الولاياتالمتحدة وابتعاده عن ركائز هوراس مان وعن تعاليم أيقونة التعليم الفيلسوف جون ديوي الذي غير من فهم المدارس مهمتها لينتقل بها الي آفاق جديدة في المنهجية بدلا مما اسماه تدريب الببغاوات, فالطالب لايأتي للمدرسة للاستماع فقط بل يجب ان يؤدي ويفعل أمورا نابعة من التفكير وان يتساءل ويسأل, فالمدرسة هي مكان للحوار حول مشاكل حقيقية وبالتالي تتعاظم فيها المهارات العملية والقدرات الانسانية. هذه المفاهيم والتجارب وغيرها هي التي يلزم أخذها في الاعتبار لاحداث ثورة في نظامنا التعليمي بالاضافة الي دفع طالب العلم للتفكير بمسئولية حول مستقبل الانسانية ككل بصفته مواطنا في هذا العالم ولتفهم عادات الشعوب الاخري وثقافتها, لأن التعليم الموجه للعيش في ديمقراطية تعددية هو ايضا متعدد أوجه الثقافة وخاصة في عالم تتشابك فيه العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية, فمتي نواجه الازمة التي تواجهنا؟ لمزيد من مقالات شريف دولار