كانت ليلة عصيبة علي سمعان وزوجته وابنهما الصبي. لم تكن هذه أول مرة يشهدون فيها بقرة لهم تلد, لكنها كانت المرة الأولي بالنسبة لهذه البقرة التي لم تكد تتم السنة الخامسة من عمرها. وكانت الليلة من ليالي الشتاء الباردة, رغم صفاء السماء وتلألؤ النجوم. وكان سمعان يري أن وجود الغيوم صيفا إن وجدت رحمة من قيظ الشمس وأن وجودها شتاء يحفظ للأرض حرارتها فتكون لياليها أكثر دفئا. لهذا فإنه أمر ابنه داود بأن يجمع للمدفأة بعض الأخشاب والأحطاب لتكون مهيأة للإشعال لحظة مجيء الوليد المنتظر فتتلقاه دنياه الجديدة بالدفء المناسب. وقد أدرك سمعان بخبرته الطويلة وبأكثر من علامة أن بقرته الشابة علي وشك الولادة: من حساب الشهور التي انقضت من يوم تم إخصابها, ولما لاحظه منذ يومين من شهيتها للطعام فقد كادت تنعدم هذا اليوم كله. كان قد وضع أمامها الشعير والفول لكنها لم تقربهما. وكان في الشهور الثلاثة الأخيرة قد أعفاها تماما من أية أعمال, فقد سبق لبقرته الشابة تلك أن أجهضت في شهرها السابع. وعلل هو ذلك كما وافقه عليه أصدقاؤه بأنه لم يمنحها ما تحتاج إليه من راحة كافية. وتناهي إلي سمعان صوت حركة في الجانب الآخر من الحظيرة يفصله عن جانبه حائط من اللبن لم يكتمل بناؤه حتي السقف ولا حتي مدخل الحظيرة مما يسمح للداخل أن ينحرف يمينا أو شمالا. فتنبه إلي ضوء شمعته المتسرب من فوق الجدار الطيني غير المكتمل مما ذكره بما حدث ليلة أمس عند هبوط المساء. كان يهم بإغلاق باب حظيرته والعودة إلي بيته المجاور, حين لمح شابا وفتاة يقتربان منه في الغسق. كان واضحا أن الفتاة حامل بل علي وشك المخاض وهي وإن كانت ذات جمال لافت إلا أنها في حالة إعياء شديد. وتقدم الشاب يحيي سمعان ويعرفه بنفسه قائلا: يوسف نجار من الناصرة, وهذه امرأتي مريم. وصلنا عصر اليوم إلي بيت لحم امتثالا لأوامر الوالي الروماني بأن يعود كل مواطن إلي مسقط رأسه حتي يتم إجراء التعداد العام, ويبدو أننا وصلنا متأخرين. فقد امتلأ خان القرية بأمثالنا الوافدين لنفس السبب, ومنذ وصلنا ونحن نبحث عبثا عن مكان نبيت فيه, ولولا هذا السبب القهري لما تركنا بيتنا في الناصرة, فأنت تري أن السيدة علي وشك.. ولم يدعه سمعان يتم حديثه, فقد كان منظر المرأة الشابة أوضح من أن يحتاج إلي إيضاح. فقاطعه قائلا: واضح واضح, لكن ماذا عساي أستطيع أن أفعل ؟ -أن تأذن لنا بالمبيت في هذه الحظيرة. - آه.. هذا آخر ما كان يخطر لي علي بال.. أن تصلح حظيرة مواش مكانا لشابين مثلكما لاسيما أن السيدة علي وشك الوضع. من حسن الحظ أنني بعت منذ أيام فقط كل ما كنت أملك من أبقار كانت قد كبرت ولا تصلح إلا للذبح, ولم يتبق لدي إلا بقرة شابة, فثمة مكان لكما, غير أن هذه البقرة الواحدة قد تزعجكما لأنها علي وشك أن تلد أيضا. وضحك سمعان بينما كان يوسف يقول: لكن أليس ذلك خيرا من المبيت في الطريق العام. - طبعا طبعا, لكن المكان غير مهيأ كما ستريان لمثل هذه الحالات الطارئة. ومع ذلك فمن حسن الحظ أنه بسبب بقرتي الشابة التي علي وشك أن تلد قد اتخذنا بعض الاستعدادات التي يمكن لكما الاستفادة منها... تفضلا تفضلا. وأوقد سمعان شمعة كان قد أخرجها من جيبه وقادهما إلي جانب الحظيرة,حيث كانت تقف بقرته ببطنها المتضخم وعينيها المهمومتين, ثم أرشد يوسف إلي كومة من التبن وهو يقول: - جلبنا مزيدا من التبن بهذه المناسبة يمكن لك أن تأخذ منه ما تشاء ليكون حشية لكما كما يمكن استخدام هذه الشمعة وأخذ إحدي هاتين المدفأتين.. أوه السيدة تبدو شاحبة, تفضلي يا سيدتي تفضلي... كم كان بودي أن استضيفكما في منزلي لولا أنه يزدحم عن آخره بأقربائنا الذين وفدوا لنفس الغرض الذي وفدتما من أجله علي قريتنا. وقادهما سمعان علي ضوء الشمعة الباهت إلي الجانب الآخر من الحظيرة, وعندما هم يوسف أن يناقشه في أجر المبيت أجابه: ليس الآن, فيما بعد فيما بعد. وعندما وصل سمعان إلي بيته أرسل زوجته لتكون إلي جوار مريم ساعة المخاض ولإمدادها بكل ما تحتاج إليه. ********* وعندما أقبل سمعان عصر اليوم ليتفقد بقرته شاهد منظرا غريبا: جمعا من الرعاة أتوا بأغنامهم عند الحظيرة. وحدس أنه لابد أن يكونوا أقرباء ليوسف أو مريم أقبلوا يسلمون عليهما. وكان قد علم من زوجته أن السيدة قد وضعت طفلها فجر اليوم, فوجد أن من واجبه أن يعرج للتهنئة بسلامة الطفل وأمه. وعندما دخل وجد الطفل مقمطا مضجعا في المذود والرعاة ينظرون إليه خاشعين, مما لم يستطع أن يجد له تفسيرا. فما كان منه إلا أن عرض خدماته علي يوسف وأبلغه أنه سيبيت في الجانب الآخر مع بقرته لأنه يتوقع لها أن تلد الليلة بين وقت وآخر. وها هو ذا الآن واقف ينظر في إشفاق إلي بقرته العزيزة, يحلم أن تجلب له بولادتها تلك البركة والخير. فوليدها ثروة, وما تدره من لبن ثروة أخري, وكان قد اشتري هذه البقرة من السوق عجلة صغيرة بنت عامين. وعندما بلغت عامها الثالث لاحظ ذات يوم بروز ما يشبه الشمعة القصيرة الرفيعة من مخرجها الأمامي, وعندما سقطت تلك الشمعة بعد أيام كان عليه أن ينتظر أسابيع أخري ليتأكد من ملاحظته, حتي ظهر ذات يوم ذلك الجسم شبيه الشمعة يتدلي مرة أخري من نفس المكان. عند ذلك أدرك سمعان أن بقرته قد نضجت واصطحبها معه إلي جاره شمعون الذي يمتلك ثورا شابا خصصه لإخصاب إناث البقر في مقابل أجر مناسب يكون جانبا لا بأس به من دخله. وقد أدرك سمعان أن البذرة أخصبت عندما لم يعد يبرز ذلك الإصبع الرقيق الشمعي. وكان سمعان فيما يبدو يريد من بقرته الكثير دون أن يعطيها إلا الكفاف. فظل يسوقها أمامه إلي الحقل تحرث وتدير الساقية وتدرس المحصول دون مراعاة لبطنها الذي يتضخم يوما بعد يوم, حتي فؤجي ذات صباح حين أقبل كعادته ليصطحبها معه إلي الحقل بجنينها ملقي بين أقدامها علي الأرض تشف أعضاؤه اللحمية الدقيقة من خلال غشائه الجلدي الرقيق, فاقد الحياة, لم يكتمل نموه بعد, بينما تقف بقرته وكأنما في عينيها نظرة عتاب له. فأدرك مدي قسوته علي حيوانه الوديع المطيع, واقترب منها يربت علي جلدها فيحس نعومة زغبها علي باطن كفه الغليظة, يعتذر لها, يعدها ألا يتكرر منه ما حدث, مقدرا أن البقرة لن تصفح عنه بهذه السهولة ولابد أن تمر أيام قبل أن يعودا صديقين. والآن ها هي ذي أمامه وقد أخصبت للمرة الثانية, وقد وفي سمعان بوعده وخفف العمل عنها طوال مدة خصوبتها بل أعفاها منه تماما في الشهور الثلاثة الأخيرة. وكان ذلك في مقابل مضاعفة جهده وجهد زوجته وابنه الأكبر الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره, وهو جهد بذلوه بكل سخاء ورضاء. ولمح سمعان جسما أشبه بالبالونة الحمراء في حجم التفاحة الكبيرة يبرز شيئا فشيئا في مؤخرة البقرة وهي تخور خوارا متقطعا, فأدرك أنها مقدمات الوضع, وكان غشاء الكرة الشفاف يشف عما تمتلئ به من سائل بينما هتف ابنه في فرح متعجل: هل هذا عجلها يا أبي ؟ فرد عليه الوالد المتوتر: بل تلك علامات مجيئه. وكان خوار البقرة الآن قد أصبح ممطوطا كأنه صادر من أغوار بعيدة, مفزعا حزينا حتي لكأنه استحال إلي أنين, يدل علي مدي ما تعانيه بقرته من آلام, حتي خشي سمعان أن تكون قد أزعجت الأم والطفل المجاورين وهما أحوج ما يكونان إلي الراحة في مثل هذا الوقت الذي أخذ يوغل في الليل, فوجد أن من واجبه معاونة بقرته الآن علي تجاوز آلام المخاض في أقصر مدة ممكنة, لهذا فإنه مد يده اليمني التي كانت عارية تماما, حيث إنه كان يقف بالفانلة والسروال فقط حتي لا يعوق حركته عائق يتحسس الجنين محاولا جذبه إلي الخارج, حتي بدت ساقاه الأماميتان الصغيرتان أولا ثم أطل برأسه وأخيرا جذب قدميه الخلفيتين حتي أصبح قطعة من اللحم تنبض ملء يديه, فوضعه بكل حرص علي كومة من القش أمام أمه كان قد أعدها لذلك خصيصا, بينما وقف الإبن الذي كان مشغولا بإشعال نار المدفأة مبهورا أول الأمر ثم قافزا في فرحة مبديا استعداده لمعاونة أبيه. وكان يلاحظ الآن في كثير من الدهشة كيف انحنت الأم علي طفلها الوليد ذ ذ من مخاط كان يساعده علي الانزلاق عند خروجه من رحمها, بينما انهمك والده في عقد مصران بارز من بطن الوليد بعد أن انفصلت عن نهايته كتلة لحم كانت متصلة به. أما الزوجة فأسرعت إلي أثداء البقرة المتضخمة تدلك حلماتها المستطيلة في حركة من أعلي إلي أسفل حتي تتفتح مسامها وتجعلها مهيأة لإرضاع عجلها الصغير. وكانت البقرة الآن قد انقطع خوارها تماما ولم يعد يسمع إلا خشخشة قوائم الوليد علي خليط القش والتبن وهو يحاول النهوض ليقع فيحاول من جديد, حين سمع سمعان طرقا علي باب حظيرته فتعجب: من يكون الطارق أو الطارقون؟!. وحين ذهب ليفتح الباب فوجئ بثلاثة أشخاص كان واضحا أنهم غرباء لا عن قريته فقط بل عن مواطنيه جميعا, وكان ذلك يبدو من غطاء رأسهم وشكل لحاهم وطراز لباسهم, وقد أناخوا جمالهم أمام باب الحظيرة, وتقدم أحدهم يستفسر لدهشة سمعان ذ: فضحك سمعان ضحكته المعهودة قائلا: لقد ولد هنا حقا طفل لكن أمه وإن كانت ذات جمال باهر إلا أنها ليست إلا برفقة نجار يدعي يوسف. فأجابوه بصوت واحد: إذن دعنا نره فهو الذي رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلم يسعه إلا إدخالهم, بينما عاد مسرعا إلي ما كان مستغرقا فيه من عمل والدهشة والحيرة تلمؤنه. وتذكر الرعاة الذين زاروا الطفل أمس, وأحس أن في الأمر شيئا غير عادي, فأرسل ابنه يستطلع جلية الأمر. أما العجل فكان قد نجح أخيرا في الوقوف علي قوائمه الأربعة, يتلمس أثداء أمه, تقوده حاسة شمه أكثر مما يقوده بصره. وحين عاد ابنه قص عليه قصة غريبة. قال الولد لأبيه: هؤلاء يا أبي مجوس أتوا من الشرق يقولون إن نجما ظهر لهم يدلهم علي أن طفلا ملكيا قد ولد, فلما تتبعوه ظل يقودهم حتي وصلوا إلي أورشليم, فظنوا أنه لابد أن يكون ابن ملكنا, غير أن الملك استدعاهم وأبلغهم أن طفلا لم يولد له, وأنه عرف من الكهنة والكتبة أن الطفل لابد أن يكون ولد في بيت لحم تحقيقا للنبؤات, وطلب منهم معرفة مكانه والعودة إليه لإبلاغه بما توصلوا إليه, لأنه يريد أن يأتي هو أيضا ويسجد له, إلا أن ملاكا ظهر لكبيرهم في حلم وطلب منه ألا يرجعوا إلي ملكنا لأنه يريد أن يقتل الطفل حتي لا يسلبه الملك, فقرروا أن يتخذوا طريقا آخر. عندئذ تملك سمعان خوف شديد, وتساءل عما إذا لم يكن قد أوقع نفسه في ورطة بسماحه لهذه الأسرة بالإقامة في حظيرته, فقد كان يسمع عن استبداد ملكهم هيرودوس وبطشه, فطلب من زوجته ألا تتصل بهذه الأسرة إلا عند الضرورة القصوي, أما ابنه فقد أخذ عليه تعهدا بألا تطأ قدمه هذا الجانب من الحظيرة حتي يغادرها قاطنوها, ثم مضي يستأنف رعايته لبقرته ووليدها.