ذهبت يوم21 ديسمبر الماضي إلي رئاسة الجمهورية, استجابة لدعوة كريمة من الرئيس عدلي منصور لحضور حفل توزيع جوائز الدولة في العلوم والفنون والآداب التي حصلت عليها نخبة من المثقفين المصريين في هذا العام, فضلا عن منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي لاسم الشاعر أحمد فؤاد نجم, رحمه الله. وكان أهم ما في الحفل- في تقديري- الدلالات التي ينطوي عليها, وأولي هذه الدلالات أن مصر التي تعاني من الأزمات الاقتصادية وإرهاب العصابات المسلحة وغير المسلحة للإخوان المسلمين تتذكر مبدعيها ومثقفيها, فتحتفي بهم بوصفهم جوهر القوة الناعمة التي هي سر قوتها الحضارية, ومصدر إشعاعها الثقافي الذي لايزال يبسط ضوءه الممتد من قبل ومن بعد حصول نجيب محفوظ علي جائزة نوبل العالمية سنة.1988 إن الثقافة هي أصل الريادة المصرية وسر من أسرار حضورها المتجدد الذي يتعامد- عبر تاريخها المتواصل- علي عبقرية مكانها بتنوعه الخلاق. ومن يمن الطالع أن يأتي هذا اللقاء, بعد انتهاء كتابة دستور جديد وإعلانه, دستور يعرف للثقافة حقها, وللعلم دوره, وللتعليم الحديث حتميته, وللمثقفين دورهم الأصيل في نهضة الأمة وتقدمها من ناحية, والدفاع عن هويتها الثقافية وحمايتها من كل محاولات الانحراف بها من ناحية أخري. لقد كان عبدالناصر يعي ذلك ويدركه, ولذلك حرص علي استمرار عيد العلم الذي ظلت مصر تراه يوما مضيئا من الأيام التي تخصصها لتكريم المبرزين في مجال العلوم والآداب والفنون. واستمر هذا العيد طوال سنوات الزمن الناصري, ولم ينقطع إلا بوفاته ومجيء السادات برغبة الانقلاب علي توجهات العهد الناصري. ورغم موافقة مبارك علي مضاعفة المكافأة المالية لجوائز الدولة في العلوم والفنون والآداب, مرات, وإضافة جوائز جديدة, فإن تقليد عيد العلم انقطع, وتطاولت سنوات إهمال توزيع جوائز الدولة, وكانت الحجة في كل مرة هي انشغال الرئيس بما كان يؤكد للأسف استخفافه بالثقافة والمثقفين. والحق أن هذا الاستخفاف كان ينطوي علي عدم فهم أهمية الثقافة وأدوارها الحيوية, سواء في تنمية وعي الفرد أو وعي الأمة علي السواء. وكان ذلك طبيعيا في سنوات تجاهلت فيها الدولة مواصلة تطوير التعليم الذي كان- ولايزال- قضية أمن وطني, كما كان يقول حسين كامل بهاء الدين. وكلنا يعلم ما الذي ترتب علي الاستهانة بتطوير منظومة تثقيف الأمة, والتقاعس عن مواجهة براثن الإظلام وجراثيم التخلف وبراثن التعصب التي أخذت تصيب وعي الأمة, وتنقلها من ثقافة التسامح والحوار وقبول الآخر إلي ثقافة التعصب والقمع ورفض الاختلاف والآخر علي السواء. وكان استيلاء الإخوان المسلمين علي الحكم هو النتيجة الطبيعية للأوضاع الكارثية للثقافة المصرية, وهي الأوضاع التي أغرتهم بالمضي في عملية تغيير الهوية الثقافية للأمة التي كان علي أبنائها مقاومة هذا التغيير ومواجهة التحدي الأخطر, وما كان لها أن تنجح في ذلك إلا بدعم من قيادة شابة لجيش لا يزال مخلصا للقيم الوطنية التي أورثه إياها عبد الناصر ممثلا لميراث الاستنارة المصرية ووعي الدولة المدنية الحديثة. وكان من الطبيعي- بعد أن استعادت مصر هويتها المدنية- أن تعرف أهمية ميراثها الثقافي العظيم, وأن تدرك مغزي العودة إلي تكريم أبنائها المبرزين في مجالات العلوم والآداب والفنون, فيقوم الرئيس عدلي منصور بتكريم آخر من حصل علي جوائز الدولة منهم, في حضور باقي من لم ينل تكريمه بعد, مع وعد بتكريم كل من فاته التكريم. ولم يكتف الرئيس عدلي منصور بإدانة التوقف عن تكريم رموز الثقافة المصرية لما يقرب من عشرين عاما, فقد أعاد للثقافة وللمثقفين الاعتبار عندما أكد أنهم كانوا وقودا لثورتين شعبيتين أدوا فيهما دورهم علي الوجه الأكمل جنبا إلي جنب أبناء هذا الشعب العظيم بكل أطيافه. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يدعو الرئيس المثقفين إلي أن يكونوا أكثر غزارة وتقدما في إنتاجهم, وأن يخاطبوا العقول, ويمتعوا العيون, ويغذوا الأرواح, ويبثوا روح الحق والعدل والوسطية والاعتدال, وقيم المنطق والجمال. والحق أن هذه الكلمات الأخيرة التي نقلتها من خطاب الرئيس تكشف عن الدلالة الثانية للحدث, وهي التوجه التنويري لصاحب الخطاب الذي أصبح رمزا لتوجه الدولة, ليس في الوعي بأهمية الفكر والعلم فحسب, وإنما الوعي بأهمية الإبداع الفني كذلك. هكذا لم يكتف خطاب الرئيس بالإشارة إلي طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ من كبار الأدباء, وإنما أردف ذلك بالإشارة إلي النحات مختار والسجيني وآدم حنين الذي كان يجلس بيننا. والإشارة إلي أعلام فن النحت من رئيس الجمهورية, تعني بداهة الإشارة إلي أعلام فن الرسم والعمارة في مدي العين التي تستمتع بروائع الإبداع الفني, وتري في ذلك ما يجمع بين مخاطبة العقول وغذاء الأرواح, وذلك كله فكر مستنير لرئيس يعرف معني الثقافة وقدرها بالقدر الذي يعرف إنجازات كبار أعلامها فكرا وإبداعا, وأين هذا ممن كانوا يرون النحت كفرا, وإبداع نجيب محفوظ هرطقة, ولم يكن في أدمغتهم سوي ما كتبه أمثال سيد قطب عن جاهلية القرن العشرين. أما الدلالة الثالثة والأخيرة من خطاب الرئيس عدلي منصور فهي أنه وجه بتشكيل لجنة من خمس وزارات تتعاون معا في شأن التثقيف المجتمعي, وهي وزارات التعليم والثقافة والإعلام والشباب والأوقاف. ولقد حقق الرئيس بذلك حلما من أحلامي, فقد دعوت في مقالاتي بهذه الجريدة مرارا وتكرارا, منذ سنوات, إلي أن كارثة الثقافة العامة والخاصة في مصر, لن تحل إلا بوجود خطة استراتيجية تتبناها الدولة, ويهتم بها الرئيس شخصيا, لإشاعة ثقافة الاستنارة بما تعنيه من قيم الحق والعدل والخير والجمال, فضلا عن التسامح والنزعة الإنسانية المؤسسة علي قيم مواطنة مفتوحة علي التنوع الخلاق, وتقوم مجموعة الوزارات المعنية بتثقيف المجتمع- التعليم والإعلام والثقافة والأوقاف والشباب- بالتنسيق فيما بينها في بث قيم ثقافية جديدة, متعاونة في ذلك مع منظمات المجتمع المدني بأدواتها الثقافية. ويكون ذلك كله هو المنظومة الثقافية التي تستند إلي أطر مرجعية نابعة من مبادئ الحرية والعدل والكرامة الإنسانية والعزة الوطنية هادفة إلي تحقيق ثقافة استنارة حقيقية, تكون لازمة من لوازم الدولة المدنية الحديثة. وبقدر ما تقوم هذه المنظومة الثقافية الجديدة بتغذية الوعي بالقيم والمبادئ التي لابد له منهما لتحقيق هدفين: أولهما مواجهة فيروسات ثقافة التخلف والإظلام التي ظلت القوي المعادية للتقدم تحقن بها عقول شعب تزيد نسبة الجهل والأمية والفقر المدقع فيه علي أربعين في المائة من سكانه. وثانيهما أن تتيح هذه القيم والمبادئ الثقافية الجديدة للوعي الجمعي أن يعيش عصره, وأن ينحاز إلي الجديد الصاعد في المجتمع الذي يسعي إلي أن يكون دولة مدنية حديثة بكل معني الكلمة. لقد كانت سعادتي غامرة عندما استمعت إلي الرئيس عدلي منصور يتحدث عن ضرورة هذه اللجنة, التي أرجو أن أسمع عن تأثيرها قريبا علي أرض الواقع. ورغم أني من الذين لا يتوقعون خيرا كثيرا من حكومة الببلاوي. لكن إعلان رئيس الجمهورية عن مثل هذه اللجنة هو خطوة أولي بالغة الأهمية لها ما يترتب عليها, ابتداء من معرفة أن وزارة الثقافة وحدها ليست المسئولة عن الثقافة العامة للمجتمع أو تثقيفه, وأنها تتشارك في هذه المسئولية مع وزارات أخري غيرها ومع مؤسسات المجتمع المدني في آن, وانتهاء بتغيير المنظومة التثقيفية للشعب المصري, وبخاصة طبقاته الفقيرة والأمية في آن. لمزيد من مقالات جابر عصفور