حين قرأت هذا العنوان لرواية الكاتب السوري خالد خليفة, الذي فاز بجائزة نجيب محفوظ الأربعاء الماضي, ظننت أنه يعني: كل سكاكين هذه المدينة قد نزلت إلي الشوارع, لكني حين انتقلت من العنوان إلي الصفحات المترعة بالأسي عرفت المقصود. أحد الشخصيات الثانوية أحرق زوجته وأطفاله الأربعة ثم طعن نفسه بسكين متسائلا: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة؟! فهو إذن يتعجب كيف أن كل الآخرين لا يفعلون مثله! لم أقرأ في حياتي رواية بهذا الحزن. أتذكر الآن أني قلت شيئا مثل هذا عن رواية المرحوم لحسن كمال علي صفحات هذا الملحق. ولكن لا, هذه الرواية شيء آخر. أحداثها تدور في حلب, ومعظمها بعد انقلاب حزب البعث في أواخر الستينيات وحتي تولي بشار, وتتوقف قبيل الثورة. إنها إذن تحكي عن أربعين عاما من العفن والحزن والرعب المتراكم أدت في النهاية إلي ما نراه الآن, لا تصف مستنقع الثورة لكنها تشرحه. إلا أنها ليست رواية سياسية, بالمعني الضيق للكلمة. إنها تتحدث عن بشر أفسدهم ما حولهم دون أن ينسي خالد خليفة أنهم بشر, أي أنهم أوسع وأعمق من أي سياق سياسي أو جغرافي- تاريخي. يتحدث عن رشيد عازف الكمان وخاله نزار المؤلف الموسيقي والعازف الشهير الذي تمردت هرمونات الأنوثة داخله علي خانة الذكر في شهادة الميلاد, وعن سوسن المرحة التي قتلتها حيويتها ومرحها وحبها للحياة, أذبلها عنفوانها وزخم تفتحها, وعن أمها- التي لا يذكر اسمها بل يناديها دائما بأمي- التي تمردت علي واقع ظنته لايليق بها فذهبت بقدميها إلي نسج عنكبوتي ظنته من حرير لكي تتعفن داخله ببطء جثة محرومة من الموت الرحيم. يحكي عن هؤلاء و غيرهم بلسان شخصية ثانوية لا اسم لها ولا نصيب لها من الأحداث إلا أقل القليل, راو هو ابن تلك السيدة التي لا اسم لها إلا أمي, وأخ لسعاد الأخت الكبري التي ولدت بلهاء و ماتت صغيرة, وسوسن الجميلة المرحة التي تحدثنا عنها, ثم الابن الأصغر رشيد الذي يعزف الكمان ويحب سوسن ويتمزق بحثا عن المعني, و الخال نزار الذي أ شرنا إليه والذي يعد رغم عاهته الاجتماعية أكثرهم نجاحا واتزانا. تلك هي الشخصيات الرئيسية, ولكن مدينة حلب أيضا شخصية رئيسية, بل هي أهم شخصية, وما كل الشخصيات الأخري إلا تفاصيل منها, لكنها تفاصيل مرسومة بعناية, منقولة حية بريشة فنان يعتني بتفرد كل واحدة منها, شخصيات نصدقها, نتعاطف معها أو نكرهها, لكننا في كل الأحوال نصدقها, وهذا ما يجعل من هذه الرواية رواية عظيمة. نعم, إنها تتحدث عن مأزق تاريخي لمدينة أو أمة, لكن الروائي إن كان روائيا حقا لابد أن يأتي ببشر سوي الله بنانهم وجعل لكل واحد منهم بصمة لا تتطابق معها بصمة أخري في الحاضر أو تاريخ الوجود أو حتي في غيب ما سيأتي. حلب الجميلة, أو التي كانت جميلة, حط عليها الهمج وانتهكها اللصوص والمرتزقة, ورقص الجميع الدبكة في شوارعها- طمعا أو كرها- علي إيقاع طبول الحزب الحاكم, وتمزقت المدينة العريقة بين العسكر ورجال المخابرات ومهاويس اللحي والجلابيب. إن ما نراه ونسمع عنه الآن يتضح لمن يقرأ هذه الرواية أنه يحدث منذ زمن بعيد, وما المذبحة الحالية إلا ذروة له. إنه الصراع بين الفاشيتين: الدينية والعسكرية, الذي يرتع في المنطقة منذ عقود. في داخل هذا المأزق العام الذي حول حلب الجميلة إلي أنقاض, ليست الأنقاض الحالية, بل أنقاض رمزية, مستنقع للقبح والفساد, في داخل تلك الشبكة العنكبوتية الأم تتعفن أرواح حية حتي الموت, كل في نسيج عنكبوته الخاص, ولكن لأن الكاتب عبقري, لا تجد تشابها بين شخصية وأخري. وفي النهاية ألفت نظر القاريء الكريم, أن هذه الرواية قد بدأ صاحبها في كتابتها في خريف2007, أي قبل الثورة بأعوام, لكنه لم ينته منها قبل ربيع هذا العام, أي أن كتابتها استغرقت كل سنوات الثورة السورية الثلاث ضمن ما استغرقته. من هنا نفهم أن الرواية وإن توقفت أحداثها قبل الثورة, إلا أن مزاجها العام خارج من رحم الأنقاض والمذابح اليومية, إنه لا يحكي الثورة لكنه يحاكيها. ولذلك جاءت روايته كما قلت في البداية لا يدانيها شيء في حزنها. الرواية صادرة عن دار العين. لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة, إن هذه الجملة في أ حد معانيها دعوة إلي الثورة, وفي معني آخر وصف لواقع مخيف لم يعد للسكاكين فيه مكان في المطبخ, بل في القلب.