' نحن قلقون جدا وهذا أمر لا نستطيع قبوله', هكذا جاء رد فعل وزير خارجية أندونيسيا مارتي ناتاليجاوا, علي الكشف عن معلومات خطيرة أماطت اللثام عنها مجلة دير شبيجل الألمانية. وصحيفة صنداي مورنينج هيرالد الاسترالية, حول تجسس الولاياتالمتحدة علي عدة دول آسيوية تصنف كبلدان صديقة وحليفة لواشنطن بالمعيار السياسي والاقتصادي, ويتصدرها الصين وماليزيا وأندونيسيا وتايلاند وتيمور الشرقية وفيتنام وغينيا الجديدة. صدمة الأسيويين كانت بالغة, خصوصا وأن أمريكا لم تتورع عن استخدام مقرات السفارات الاسترالية كقاعدة لأجهزة التنصت علي المعلومات والبيانات المتبادلة عبر شبكة الانترنت بدعوي مكافحة الإرهاب. وزاد من وقع الصدمة أن الدول المتضررة ما عدا الصين تربطها أواصر تعاون وثيقة للغاية علي المستوي المخابراتي والأمني ولا يوجد ما يستدعي طعنها في الظهر بهذا الشكل وانتهاك ليس فقط الأعراف والقواعد المنظمة للعلاقات الدولية والدبلوماسية, بل أيضا المعايير الأخلاقية التي مادامت تشدقت بها الإدارة الأمريكية في المحافل واللقاءات الخاصة بالمنظمات والهيئات الدولية وأحدثها كان فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أعلن الرئيس باراك اوباما من علي منبرها أن الجانب الاخلاقي يمثل ضلعا وركيزة محورية للسياسة الخارجية لبلاده, وأنه ليس بمقدورها الاستغناء عنه مهما كانت الضغوط. ومما يبعث علي السخرية والاستغراب معا أن أمريكا بعدما ظلت طوال السنوات الخمس الماضية تشكو مر الشكوي من هجمات القرصنة الالكترونية الصينية التي استهدفت مراكز حساسة ومهمة لها صلة بصناعة القرار السياسي والعسكري في واشنطن, إذا بها تضبط متلبسة بالجرم المشهود بتجسسها علي الجميع بدون استثناءات بطريقة تشكل تعديا علي الحريات والحقوق الفردية التي كفلتها المواثيق والمعاهدات الدولية وتحمل استهانة بها. ومثلما حلت الريبة محل الثقة في نفوس الحلفاء الأوروبيين, بعدما فجر المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأمريكية ادوارد سنودن, قنبلة تجسس العم سام علي35 من قادة وزعماء العالم, فإن الأسيويين بدورهم باتوا لا يثقون في أمريكا. فمن مجمل ردود الفعل الآسيوية علي تفجر هذه الفضيحة سنلاحظ أنها حملت كثيرا من علامات الاستفهام والتعجب بهذا الخصوص, إذ كيف لواشنطن أن تقع في خطأ الإساءة لصلات الثقة التي بنيت بينها وبين هذه الدول خلال عقود بهذه السهولة والفجاجة, لأنها تجاوزت المتعارف عليه في العمل المخابراتي بالخارج؟. بناء عليه, فإن الولاياتالمتحدة سيكون أمامها عقبة صعبة عليها العمل باجتهاد لتخطيها باستعادة ثقة الآسيويين مرة أخري, وأغلب الظن أن تلك المهمة سوف تستغرق وقتا طويلا لاتمامها, نظرا لارتباط القضية بتهديدات مباشرة للأمن القومي لأقطاب القارة الصفراء, وأن أبدت تنازلا أو تهاونا بصددها فإن حكوماتها تغامر بالدخول في مواجهة مباشرة وخاسرة مع شعوبها الممتعضة من التصرفات والسلوكيات الأمريكية, وهو ما يهدد بإثارة قلاقل واضطرابات ما أغناها عنها, ومن ثم فإن كل خطواتها باتجاه الولاياتالمتحدة ستكون محسوبة بدقة متناهية. وتؤكد المعطيات المتوافرة حتي الان أن أجهزة المخابرات الأمريكية تعاني من الانفلات وعدم الانضباط, أو بمعني أدق وأشمل أنها أضحت خارج نطاق سيطرة الجهات السياسية والرقابية مما سيجعل العواصم الأسيوية تركز أبان الفترة المقبلة علي ما لحق بها من أضرار أمنية نتيجة التجسس الأمريكي, وكذلك سيدفعها للتريث قبل تزويد الولاياتالمتحدة بمعلومات مخابراتية وبالتبعية سيكون لذلك عواقبه غير المحمودة فيما يتعلق بالتصدي للإرهاب الذي تقود أخطاء وفضائح واشنطن لتدعيمه وتزايد أعداد المنضمين لقواعده والمتعاطفين معه ومع الجماعات المتشددة التي تتبناه. ليس هذا فحسب, لكن الصين ستكون المستفيد الأكبر وسوف تسعي جاهدة وبسرعة للتقارب مع حلفاء أمريكا مما سيمكنها من توسيع مساحة نفوذها في آسيا. وفي هذا الإطار كان لافتا أن اليابان وكوريا الجنوبية لم يكونا ضمن قائمة من شملهم التجسس, خاصة وان البلدين يمثلان رأس الحربة للسياسات الأمريكية في آسيا, لكن ذلك لم يمنع طوكيو من فضح حليفها الأمريكي بإعلان وسائل الإعلام فيها عن رفض الحكومة اليابانية طلبا أمريكيا في2011 بمساعدتها في التنصت علي الاتصالات الهاتفية وبيانات الانترنت عبر الألياف البصرية المارة بمنطقة آسيا والمحيط الهادي. إن خسائر أمريكا المتمخضة عن تجسسها علي حلفائها ستكون كبيرة وممتدة وعليها التفكير في طرق جديدة مقنعة لترميم علاقتها المتوترة مع آسيا مع العلم أن الوقت ليس في صالحها.