صدر في1992 كتاب للمؤلف الأمريكي' نيل بوستمان' عنوانه' تكنوبولي: استسلام الثقافة للتكنولوجيا', والكلمة الأولي من العنوان منحوتة من كلمتي: تكنولوجيا و'مونوبولي'- أي احتكار- باللغة الإنجليزية. وبوستمان يري أن تحول التكنولوجيا إلي' عقيدة' وغاية لذاتها سوف يخلق صراعا بين التكنولوجيا والثقافة تكون فيه الغلبة في النهاية للتكنولوجيا وتصبح'عبادة التكنولوجيا' هي الثقافة البديلة وتكون كل أشكال الحياة الثقافية التقليدية تحت رحمة التقدم التكنولوجي وسيطرته. هذه الثقافة' بلا بوصلة أخلاقية' تختفي فيها وبسببها بعض جوانب النشاط العقلي والاجتماعي للإنسان, فما تنتجه التكنولوجيا من أدوات سوف تفكر له وتتيح له وسائط أسرع وأسهل للتواصل مع الآخرين. هذه الثقافة تقدس البيانات والمعلومات علي حساب الأفكار, والتجربة علي حساب الفكر. هذه المخاوف كانت' غير مبررة' ومبالغا فيها فتدفق المعلومات وقتها لم يكن قد صار فيضانا بعد, ولم تكن التكنولوجيا, وخاصة في مجال الاتصالات, قد أصبحت عقيدة بعد. لكن هذه المخاوف وأخري جديدة عاودت الظهور في نهايات القرن العشرين والسنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين لسببين رئيسيين: الأول: ظهور محرك بحث جوجل وبداية التطبيق الفعلي ل' التمكين المعلوماتي والمعرفي' وحق للإنسان في المعرفة والوصول إلي ما يحتاجه من معلومات, من خلال تنظيم كل المعلومات في العالم واتاحتها للجميع, وما نتج عن هذا' التنظيم' من غلبة للمفهوم الرقمي للمعرفة علي المفاهيم الأخري. والثاني: بدايات الموجة الثانية من الإنترنت والتي تعرف ب' ويب2.0', متمثلة في المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي وثقافة الويكي والانتاج الجمعي للمعرفة كما تجلي في موسوعة' ويكيبيديا', تأكيدا لدور الإنترنت كأداة للتحرر والتمكين الثقافي, وحق مستخدم الإنترنت في أن يكون شريكا في صياغة المنظومة المعرفية وانتاج معرفة تحددها اهتماماته وقضاياه وليس مصالح المؤسسات الاقتصادية والسياسية والإعلامية. وما تراه جوجل تمكينا معلوماتيا ومعرفيا يراه البعض تجسيدا للمفهوم' الشعبي' للمعرفة يهدد جودة المعرفة ودقتها. فتعريف جوجل للمعرفة إحصائي بحت يعتمد بالأساس علي ما يمكن قياسه. وهذاالتعريف يرسخ سلطة' حكمة الجماهير' في تحديد المهم' والأفضل', فما تختاره الجماهير ينمو وينتشر, وما لا تختاره يضمر ويختفي. فقد يري محرك بحث جوجل أن موقعا لغير متخصص أكثر أهمية من موقع آخر يمتلكه متخصص, لأن معادلة جوجل تقول ذلك. قد يري البعض هذا الموقع تافها وسطحيا, لكن هذا لايهم إن كان رأي الأغلبية عكس ذلك. ويري' أندرو كيين' في كتابه' طائفة الهواة: كيف تقتل الإنترنت ثقافتنا' أن المعرفة التي تصلنا عن طريق جوجل بهذه الطريقة ليست الأصح أو الأدق, بل فقط الأكثر شعبية, والنتيجة' تلويث' ممنهج للمعرفة. ويري' نيكولاس كار' مؤلف كتاب' السطحية: كيف تؤثر الإنترنت علي أدمغتنا' أن هذه الطريقة في معالجة المعرفة قد تجعلنا أكثر غباء وتشتتا وسطحية وميلا للإشباع اللحظي لاحتياجاتنا المعرفية وأقل صبرا وتركيزا, وأنها تؤثر سلبا علي' جودة المعرفة'. ويقول كار أن التعامل السريع مع' وجبات معلوماتية صغيرة' والتصفح السريع للأخبار والأفكار ليس مشكلة, لكن المشكلة أن يكون ذلك هو النموذج السائد, لأنه نموذج يضر بحياتنا العقلية والثقافية, وقد يتسبب في' ردة معرفية', فبدلا من التطور نحو معرفة أكثر عمقا وتجريدا نرتد إلي' صيد المعلومات' وجمعها من الغابة الرقمية. وهذا القلق يستند لتجارب تقول بأن استخدام الإنترنت لفترات طويلة يقلل من نشاط الجزء المسؤول بالمخ عن التفكير العميق والتركيز لأن استخدام الإنترنت لفترات طويلة يرسخ عادة التصفح السريع للمعلومات علي حساب الفحص المتعمق. وتأثير الموجة الثانية من الإنترنت أعمق وأخطر وأبعد مدي علي مستقبل الثقافة والمعرفة. فالداعون لهذه الموجة يرون الإنترنت عنصرا أساسيا في جعل عملية انتاج المعرفة أكثر ديمقراطية وإتاحة أدوات انتاج المعرفة للجميع, وإعادة توزيع للسلطة الثقافية مع تحيز صريح' لتمكين الجماهير والهواة' في مواجهة' النخبة والخبراء' والمؤسسات التقليدية. وأدوات انتاج المعرفة في هذه الموجة تجعل من الإنترنت سوقا حرا للأفكار وأنماط التعبير, وحاضنة لثقافة أكثر فردية وذاتية وأكثر تنوعا وثراء تعكس اهتمامات من ينتجها وتفاصيل حياته اليومية. وبهذه الأدوات أيضا يتحول مستخدم الإنترنت من' مستخدم قارئ' إلي' مستخدم قارئ وكاتب', ومن مستهلك للمعرفة إلي منتج لها. وهو ما بشر به' ألفين توفلر' في كتابه' الموجة الثالثة' في1980 م. و'جودة المعرفة' تضمنها فرضية' حكمة الجماهير', كما يقول' جيمس سورويكي' في كتاب له بنفس العنوان, و'كلاي شيركي' في كتابه عن' الفائض المعرفي'. وهذه الفرضية تقول بأن المعرفة الجمعية لملايين البشر أفضل وأدق من معرفة عدد قليل من الخبراء والمتخصصين. ويقول المتحمسون لهذا الاتجاه أن التقدم الرقمي حتمي فهو التطور الطبيعي للحراك الإنساني نحو نظام معرفي أفضل يتطلب من المؤسسات الثقافية التقليدية أن تتكيف أو حتي تختفي لكي يكمل العالم تقدمه. لكن هناك من يري أن إزاحة' الخبراء' ونقل سلطة انتاج الثقافة والمعرفة إلي' هواة' تأثيره' كارثي'. فيري' كيين' و'كار' أن هذه الموجة تعني معرفة وثقافة أقل عمقا وأكثر سطحية ونرجسية, وفيضان من المعلومات' التافهة'. أما'ديمقراطية انتاج المعرفة' فسوف تؤدي إلي' ديمقراطية المواهب' ونهاية الموهوب وسيطرة العادي والمتواضع, وأن' المساواة الثقافية' سوف تؤدي إلي' صخب الآراء الكثيرة' وغرف الصدي, فالكل' يؤلف ويتكلم' ولم يعد هناك جمهورا يقرأ أو يسمع. ووسط هذا الصخب تضيع' القلة المستنيرة' القادرة علي انتاج ثقافة رفيعة. وثقافة الويكي ثقافة' متطفلة' أساسها' القص واللزق' وانتهاك حقوق الملكية الفكرية لمن أبدع ثقافة أصيلة. وحكمة الجماهير ما هي إلا' ديكتاتورية قطيع' تستغلها قلة رقمية لمصلحتها للوصول إلي رأسمالية رقمية تنقل السلطة من المؤسسات التقليدية إلي الشركات المنتجة لتكنولوجيا المعلومات وأدوات انتاج المحتوي. الاستاذ بجامعة عين شمس لمزيد من مقالات د. خالد الغمرى