لماذا تحولت مؤسساتنا التعليمية إلي دواوين إدارية ولم تعد مراكز إشعاع فكري وتنويري وروافد لحركة البحث العلمي في بلادنا؟ حدث ذلك ويحدث وسوف يظل يحدث لعدم وجود رؤية إصلاحية جذرية بعيدة المدي. نظام التعليم في مصر لم يعد يحتمل الإصلاحات الجزئية أو الإصلاح بالترميم أو بالقطعة أو بالتجميل لكنه يحتاج إلي إصلاح جذري شامل. مثل هذا الإصلاح يخشي كثير من المسئولين وصناع القرار الإقدام عليه لأكثر من سبب. فهذا الإصلاح الجذري ذو ثمن سياسي قد يدفعه المسئول أو صاحب القرار من عدم احتفاظه بمنصبه أو إيقاف طموحاته الشخصية أو تحمل رد الفعل الشعبي الغاضب إزاء نتائج الإصلاح الجذري علي المدي القصير. من هنا تصبح الرغبة في البقاء بالمنصب ومحاولة إرضاء الجميع أقوي من دوافع الإصلاح. لعل هذا ما يفسر لنا مثلا أن أيا من حكوماتنا المتعاقبة لم تحاول قط تطوير نظام القبول بالجامعات الذي أصبح ينتمي بكل المقاييس لعصر اندثر في كل الدول المتقدمة بل وكثير من الدول الناهضة.فالسلبيات الكثيرة لهذا النظام أصبحت معروفة وبدائله متاحة وممكنة لكنه الخوف من الإصلاح الجذري وتبعاته. وقس علي ذلك في أمثلة أخري كثيرة. لهذا يؤثر كثير من المسئولين إرجاء حسم قضايا الإصلاح الكبري وتسكينها وتوريثها إلي المسئول الذي سيأتي بعدهم يوما.يترتب علي ذلك أن المشكلة الواحدة تتراكم وتتعقد وتتفاقم فيهرب منها كل مسئول تاركا إياها لتوقيت لا يجيء أبدا, وهكذا. ومن المفارقة أننا نلوم الحكومة الانتقالية علي عدم حسمها الكثير من القضايا والملفات العالقة ناسين أنه حتي وقت قريب كان لدينا وزراء استمروا في مناصبهم لأكثر من عشرة أعوام وعشرين عاما ومع ذلك لم يقتربوا من القضايا والمشكلات المزمنة في التعليم تأو غيره من المجالات. كان الحرص علي الاستمرار في نعيم المنصب الوزاري أقوي من أي دافع وطني للإصلاح. بالطبع لم يخل تاريخ التعليم في مصر بل وتاريخ مصر كلها من مصلحين كبار لكنهم لم يحصدوا في حياتهم سوي المعاناة والرفض والتشكيك ولم ينصفهم التاريخ إلا بعد مغادرتهم المنصب أو بعد وفاتهم. وكان أبرز هؤلاء المصلحين الكبار هو باني الدولة المصرية الحديثة نفسه محمد علي باشا الكبير الذي أمضي أواخر أيام عمره وحيدا حبيس قصره. أحد الأسباب الأخري لانهيار التعليم في مصر هو ان المسئول الذي يعهد اليه بهذه المهمة الثقيلة يفتقد مناخ الإصلاح ذاته. وأقصد بمناخ الإصلاح هنا توفير البيئة المشجعة والمؤازرة لعملية الإصلاح الجذري الشامل. فمن المؤكد أن لدينا في مصر من القيادات والكفاءات الأكاديمية والتربوية من يمتلك روشتة لإصلاح نظام التعليم ويعرف جيدا مواضع الخلل والانهيار في كل جوانب المنظومة التعليمية. لكن المشكلة ان بعض المسئولين يخاف من وضع يده داخل أعشاش الدبابير التي يكمن داخلها جماعات وشلل وقوي تتعارض مصالحها الخاصة( وهي في الغالب مصالح غير مشروعة) مع أي إصلاح جذري هدفه المصلحة العامة. ففي مصر يوجد في كل مؤسسة كبيرة او صغيرة زعشس ما للدبابير تضم شبكة متضامنة ومتوحدة من جماعات المصالح. مثل هذه الشبكات إما أن تنجح في إفساد المسئول الكبير وتشركه معها في لعبة اقتسام الغنائم أو غيرها من الألعاب غير النظيفة وإما أن تحيل حياته الي جحيم. هذا هو الجيش الخفي للفساد. ولعل هذا ما يفسر لنا مثلا أن أحدا من المسئولين المتعاقبين عن التعليم في مصر لم ينجح يوما في مواجهة تشبكات الدروس الخصوصية والتي تحولت الي تعليم مواز للمؤسسة الرسمية بكل معني الكلمة او مواجهة شبكة المنتفعين بالكتاب المدرسي الذي لا يقرأه أحد لكنه يكلف خزانة الدولة أكثر من مليار جنيه سنويا تضيع هباء. إن مصالح لوبي الكتاب المدرسي وتقاطعها مع مصالح لوبي الكتاب الخارجي المساعد ليست أكثر من عش كبير للدبابير يمكن أن يلدغ اي يد إصلاحية تقترب من بيضه الثمين. يعرف كثير من المسؤولين في مصر هذا الواقع جيدا. لكن من النادر أن يخرج مسؤول كبير لمواجهة أعشاش الدبابير في وزارته او مؤسسته. نذكر كيف حاول وزير سابق للتعليم مواجهة أعشاش دبابير الدروس الخصوصية لكنه سرعان ما تراجع خشية أن يفقد منصبه نتيجة هياج الدبابير! ثمة حكاية أخري شهيرة في مصر كان رجل مغوار بطلها هو اللواء المرحوم أحمد رشدي وزير الداخلية الأسبق منذ ثلاثين عاما. قرر هذا الوزير الشجاع مواجهة شبكة أباطرة تجارة المخدرات في مصر جاعلا من هذه المهمة أولوية في سياسته الأمنية. وحين اشتدت حملاته الأمنية علي هؤلاء الأباطرة بدا وكأنه وضع أصابعه في عش كبير للدبابير. ولهذا يردد الكثيرون أن أحداث تمرد جنود الأمن المركزي عام 1986 والتي فقد بسببها الوزير منصبه لم تكن بعيدة عن تخطيط وتدبير أباطرة المخدرات انتقاما من المسئول الذي جرؤ علي خرق إحدي قواعد اللعبة. وكم في مصر من قواعد للعبة تحتار في فهمها العقول. لهذا يعتنق كثير من المسئولين عن نظام التعليم ما يمكن تسميته بفكر إيثار السلامة وهو فكر يجعل من الزمن عاملا لحل المشكلة حتي تموت او ينساها الناس. لكن الذي يحدث في مصر أن الزمن لا يميت المشاكل والأزمات أبدا بل يفاقم من حدتها ويزيدها احتقانا. فكر إيثار السلامة هو فكر سلبي وعدمي وأناني آخر همه هو مصلحة الوطن أو المؤسسة. ------------- يقول الشاعر الراحل أمل دنقل قولي من أين/ الصمت شظايا/ والكلمات بلا عينين/ لملمني الليل وأدخلني السرداب/قدماي نسيتهما عند الأعتاب/ ويداي تركتهما فوق الأبواب/ إنك لا تدرين/ معني أن يمشي الإنسان/ ويمشي/ بحثا عن إنسان آخر/ست لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم