نستطيع أن نكتب مجلدا عندما نشرع في الكتابة عن الكاتب الفرنسي ألبير كامو(7 نوفمبر41913 يناير1960). فهو ورغم كونه كاتبا مرموقا, وحائزا علي جائزة نوبل في الآداب, وأحد رواد تيار العبث في الأدب والفكر الفرنسي. إلا أنه أيضا ترجمة مباشرة لكيف تسوق الأقدار الإنسان مهما بلغت ثورته عليها ورغبته في تحديها: فكيف بالمولود لعامل فقير قتل في الحرب العالمية الأولي وتركه يتيما, ولخادمة أمية صماء تقرأ الشفاه لتفهم محدثها, أن يبهر العالم أجمع بإنتاجه الفكري والأدبي المتفرد؟ وكيف لمن اكتشف وهو في السابعة عشرة من عمره أنه مريض بالسل ليظل هذا المرض رفيق السنوات الثلاثين التالية لحياته, أن يموت في حادثة سيارة وليس بسبب مرضه المزمن؟ في الحقيقة, إن هذه المفارقات وغيرها الكثير هي التي ساقت حياة ألبير كامو, فالكاتب الثائر الذي طالما تساءل عن معني الحياة, وطالما تحدث إسهابا عن مشاقها ومتاعبها ومعاناة الإنسان فيها وحيرته من أمرها, الذي طالما أعيته العلاقة بين الإنسان والإله, الذي طالما تحدث عن الانتحار وعلاقته بعبثية الحياة, هو ذاته الذي كون صداقات ثمينة مع جان بول سارتر( قبل اختلافهما) ومع رينيه شار وأندريه جيد وقبلهم أندريه مالرو الذي ساعده في نشر أول أعماله وهي رواية' الغريب' عام1942, وأخيرا صداقته التاريخية مع ميشيل جاليمار( ابن شقيق جاستون جاليمار صاحب دار النشر الشهيرة) الذي ارتحل معه علي درب الموت, فقد كان قائد السيارة التي انقلبت بهما معا علي طريق فيلبلوفان باريس ليموت كامو علي الفور ولينقل جاليمار إلي المستشفي ليلحق بصديقه الأعز بعد أسبوع واحد. ومازلنا نتحدث عن الكاتب الثائر الذي تزوج مرتين وأنجب ولدا وبنتا, وهو ذاته الذي فاز بجائزة نوبل في الآداب عام1957 واشتري بقيمة الجائزة بيتا فخما في إحدي الضواحي الفرنسية, وهو ذاته الذي ناضل الاستعمار الفرنسي للجزائر البلد التي ولد وتربي فيها حتي سن الشباب مع إيمانه بضرورة الإبقاء علي الجزائر فرنسية الهوي! وهو ذاته كان الكاتب الغربي الوحيد الذي أدان في مقال منشور في جريدة' كومبا' استخدام القنبلة الذرية بعد إلقائها علي هيروشيما بيومين إثنين فقط, وهو ذاته الذي عارض الماركسية والوجودية وجميع الاتجاهات والأفكار التي رأي إنها تحط من شأن إنسانية الإنسان, حتي كتب البعض عنه أنه كان يمثل أحد الضمائر الحية في القرن العشرين! لقد كان ألبير كامو قصة حياة نابضة مناضلة حزينة متصارعة متعمقة. إنه التجسيد الحي لمعني أن يجاهد الإنسان طوال عمره ليتمسك فقط بإنسانيته في الوقت الذي تدفعه فيه الحياة بقسوة مفرداتها ليكون أي شيء آخر. إن كتابات كامو الساحرة البسيطة من الناحية اللغوية, العميقة جدا من الناحية الفكرية, قد منحته جمهورا ومريدين ومحبين بعرض الكرة الأرضية, وبالتطواف في بعض مقولاته المأخوذة من بعض أعماله, يمكننا أن نتبين الزخم العقلي والانفعالي والوجداني الذي كان يسيطر عليه ويدفعه دفعا للكتابة لتخرج هذه اللآلئ فتكتب له اسما من نور في سجل المفكرين الخالدين في تاريخ الإنسانية, ومن ذلك نستطيع أن نقرأ:' أن تبدع هو أن تعيش مرتين'( كتاب الإنسان الثائر),' أن تبدع هو أن تضع شكلا لقدرك'( كتاب أسطورة سيزيف),' أي إنسان هو ضحية لحقائقه'( كتاب أسطورة سيزيف),' يكون الإنسان إنسانا أكثر بالأشياء التي يسكت عن قولها أكثر من تلك التي يقولها'( كتاب أسطورة سيزيف),' إن ما نعجب به في البشر أكثر مما نحتقره'( مسرحية العادلون),' الموت من أجل الفكرة هو الطريقة الوحيدة لأن نصبح علي قدر الفكرة'( مسرحية العادلون),'لا توجد سوي مشكلة فلسفية جادة للغاية: إنها الانتحار. فالحكم بما إذا كانت الحياة تساوي أو لا تساوي مشقة العيش فيها هو الإجابة علي السؤال الأساسي في الفلسفة'( كتاب أسطورة سيزيف),' لقد فهمت أنه لا يكفي أن ننكر الظلم, بل يجب أن نمنح حياتنا لمحاربته'( مسرحية العادلون),' علي العالم أن يتوقف عن كونه ملكا لأفراد الشرطة وللجنود وللمال, يجب أن يصبح العالم ملكا للرجل والمرأة, وللعمل الخصيب, وللهواية بعد تفكير'( مقال أزمة الإنسان). وفي صباح يوم4 يناير1960, كان ألبير كامو قد اشتري تذكرة للقطار المتجه إلي باريس من إحدي ضواحيها حيث كان يبيت ليلته, إلا أن صديقه الأعز ميشيل جاليمار أصر علي اصطحابه معه في سيارته! وقد رجحت الأقوال أن السرعة الجنونية وانفجار أحد إطارات السيارة كانا سبب الحادث الذي أودي بحياتهما, لكن تذكرة القطار التي وجدت في جيب كامو والمسودة الخطية لعمله الأخير غير المكتمل' الإنسان الأول' التي وجدت أيضا في حوزته تؤكدان أنه رغم كل حيرته وتساؤلاته عن جدوي الحياة, فإنه كان محبا للحياة ومقبلا عليها. هذا هو ألبير كامو الذي يحتفل مركز الأنشطة الفرنكوفونية بمكتبة الإسكندرية بالتعاون مع المعهد الفرنسي بالإسكندرية بالمئوية الأولي لميلاده هذا الشهر, كعلامة بارزة في تاريخ الأدب والفكر الإنسانيين. لمزيد من مقالات بقلم :د.شيماء الشريف