إن غطرسة القوة المطلقة, شأن غطرسة أوهام القوة أو افتراضها أو الاستقواء بعباءتها أو التحالف معها, مفسدة مطلقة تردي صاحبها رهينة لفكر يتمحور حول ذاته. إن غطرسة القوة لا تعرف الحياء وتخترع لنفسها مشروعية خاصة وتخلع علي أهدافها مشروعية موجهة لما تعتبره مفهوما للحق أو عملا مشروعا أو حكما رشيدا, وتبرر كل الوسائل المؤدية للأهداف والمحققة للمصالح في إطار تلكم المفاهيم. في هذا الإطار, مع درجات من التباين في بعض الاستهداف, يمكن لنا تفسير موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الأوروبية, بالاشتراك مع تركيا ودويلة قطر الغارقة في أوهام الدولة وأحلام هي أقرب للخيال المريض, من الثورة المصرية الكاسحة التي فجرها إجماع شعبي غير مسبوق في حشود تجاوزت خمسة وثلاثين مليونا ماجت بهم الجمهورية في الثلاثين من يونيو2013, ليستعيدوا ثورتهم بعد اختطاف, ويمسكوا بوطنهم قبل انهيار, وينتشلوا دولتهم من منحدر الضياع وخطر السقوط, ويعلنوا الخلاص من حكم الفاشية الدينية التي مزقت البلاد وأهانت العباد وداست الدستور والقانون. لقد تحالفت تلك القوي مع الجماعة المتأسلمة علي إجهاض ثورة أفشلت أهدافهم الإستراتيجية وأتت علي مصالحهم وذهبت بمشروعاتهم, فأصابهم فزع اللصوص عندما تكتشف مخططاتهم, وأنكروا علي المصريين ثورتهم ووصفوها بالانقلاب العسكري. وإن كان الموقف الغربي في عمومه قد تراجع أخيرا أمام صلابة المصريين وإصرار قادتهم علي المضي قدما في تنفيذ خارطة الطريق التي أقرتها الجماعة الوطنية, في الثالث من يوليو2013, يساندها موقف قومي عربي جسور لدولة الإمارات العربية المتحدة, والمملكة العربية السعودية, ودولة الكويت, ومملكة البحرين والمملكة الأردنية الهاشمية. غير أن الجماعة المتأسلمة لا تزال علي عنادها وعند صلفها تمارس تلذذها خداع الذات وإنكار الواقع وتوهم إحياء الموتي وقد مضت عصور المعجزات. إنهم هم الانقلابيون علي الثورة الأم التي فجرها المصريون في الخامس والعشرين من يناير.2011 في ظروف مضطربة مليئة بالريبة والتآمر والصفقات والتشرذم, وبالدعم الموصوف, قفز التنظيم علي الثورة وابتلعها. وهنا أوقف الانقلابيون إيقاع الثورة وقزموها إلي مجرد انقلاب مدني. واستمر الإنقلاب المدني وتشعبت تفريعاته في المجالات كافة. الإنقلابيون إذن هم جماعة الخوارج الذين استمر انقلابهم علي صحيح الدين فسيسوه بما ليس فيه وحملوه أوزارهم وتاجروا وخدعوا وضللوا به. لقد أفلحت الجماعة في اختطاف الدولة المصرية والإمساك بمفاصلها والقبض علي السلطتين التشريعية والتنفيذية والانقلاب علي السلطة القضائية والإعلام والهوية والثوابت من خلال دستور وقوانين وقرارات انقلابية ولدت مشوهة وأصابها الكثير من العوار فلحقها البطلان باستثناء ما تحصن منها بموجب إعلان دستوري غير مسبوق, أصدره الرئيس الديكتاتور في21 نوفمبر.2012 ثم انقلبوا علي أهداف الثورة وإنحرفوا بها وانشغلوا عنها بالاستحواذ والتمكين لأنفسهم وللغير; انقلبوا علي المواطن فروعوه وكفروه واستحلوا دمه; إنقلبوا علي المواطنة فأسسوا للطائفية والعنصرية والتمييز; انقلبوا علي العلم والتراث العلمي فأحرقوه; انقلبوا علي رموز الحضارة والآثار فدمروها; انقلبوا علي التعليم فزيفوا التاريخ وشوهوا المناهج; انقلبوا علي السلام والأمن الاجتماعي والقومي فخرجت ميليشياتهم المسلحة من أوكارها وعاثت في الوطن تروعيا وتفجيرا وإحراقا واقتتالا, وأخرجوا محترفي الإجرام وفحول الإرهاب من السجون, إما باقتحامها وتهريبهم أو بالعفو الرئاسي عنهم, وإحتضنوهم ووفروا لهم الملاذ الآمن, ويسروا حصولهم علي السلاح, وتواطأوا معهم وأغمضوا العين عن جرائمهم; انقلبوا علي الثقافة المصرية وفنونها العبقرية التي عبرت إشعاعاتها الحدود وأنارت العقول وحفظت الهوية وحصنتها, وحررت الإرادة وأسهمت في دعم الاستقلال الوطني وساندت الاستنهاض والنهضة ومواكبة معطيات العصر بغير إخلال بجذور الأصالة وعظم الموروثات; انقلبوا علي الرموز والنخب وقدموا عليهم الأهل والعشيرة, وانقلبوا علي الحق في الحياة فراحوا يغتالون كما يتنزهون. وبالجملة فقد انقلبوا علي أهداف المصريين وخانوا طموحاتهم وصادروا أحلامهم وقزموا حقوقهم; وعلي الأمة بكل مكوناتها; وعلي الوطن بكل مقدراته; وعلي الدولة بكل مؤسساتها; وعلي جوهر الديمقراطية, وعلي الحضارة الإنسانية بكل معطياتها فباتوا في صدام معها ومعاداة لها. وفي هذا السياق, نجد من التناقض المستهجن أن أولئك الذين تورطوا في وصف بركان الثلاثين من يونيو بالانقلاب, هم أنفسهم الذين سارعوا وباركوا إعصار الخامس والعشرين من يناير باعتباره, بحق, ثورة شعبية. كما أن لبعض تلك القوي تاريخا ممتدا في صناعة أو دعم انقلابات عسكرية والاعتراف بها باعتبارها ثورات شعبية مشروعة تستوجب التعامل معها ومساندتها. إن العنصر الحاكم لتلك المواقف ينطلق من اعتبارات إستراتيجية واستهدافات مصلحية في لعبة الأمم والسياسة. والسؤال إن لم يكن البركان الذي فجره المصريون, في الثلاثين من يونيو2013, ثورة, أفيدونا إذن كيف تكون؟ إن الذين خططوا للمفاجأة التي أتت بالجماعة المتأسلمة إلي حكم مصر, الذين أبهرتهم المفاجأة فأصيبوا بلوث أفقدهم التوازن فذهبوا يتخبطون علي غير هدي, يعيشون اليوم صدمة الهزيمة التي أسقطت الإستراتيجيات وأضاعت الأهداف وكشفت المستور. لقد أفلتت مصر من مخالبهم وتهاوت مشروعاتهم, الأقرب إلي الخيال الجاهلي, وباتوا صرعي لا يكادون يفقهون حديثا أو يرون واقعا أو يدركون حجم الكارثة التي أحلت بهم, وتراهم يكابرون لا يعترفون بنهاية التجربة. إن الجماعة والمتحالفين معها, وقد انكسروا أمام إرادة مصرية صلبة وموقف عربي مشرف, لن يجدوا غير موقع الخزي والعار في ذاكرة الأمة ومحرقة التاريخ. تلك الجماعة الانقلابية طالما وضعت قدما في السياسة بينما غرقت بكامل هيكلها وتنظيماتها في التآمر والإرهاب, الأمر الذي وضعها دوما في صدام مع الشعب والسلطة فواجهت الحل مرتين في عامي1948 و.1955 وفي الثلاثين من يونيو2013, أسقطها المصريون سياسيا, كما أنهي إرهابها مشروعيتها اجتماعيا. وفي الثالث والعشرين من سبتمبر2013, أخرجها نهائيا من المشهد الحكم التاريخي الكاشف لقضاء الأمور المستعجلة بحظر الجمعية والجماعة ومؤسساتها وكل تنظيماتها وأي منشأة تابعة لها أو مرتبطة لها, ومصادرة الممتلكات والأموال بكل صورها. تلك نهاية مستحقة لأعداء الأمة المتآمرين علي الوطن المنقلبين علي الدولة والشعب المناهضين لمعطيات التقدم وقيم الحياة.. أستاذ القانون الدولي لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى