في بيت من عيون الشعر العربي استنطق أبو العلاء شاعر المعرة- شكاية أحد القبور قائلا: ودفين علي بقايا دفين.. ضاحك من تزاحم الأضداد! ولا أكاد أجد وصفا للأزمة التي تضج بها الأمة في أيامنا هذه أقرب إلي الدقة من هذا الوصف الضاحك الباكي! علي أن تزاحم الأضداد الذي وصفه أبو العلاء هنا إنما هو- في عالم الأموات حيث مصير الكل إلي يوم يمثل الناس فيه لفصل القضاء العدل الذي لا ريب فيه. وفي أزمتنا المجتمعية الراهنة يتحول تزاحم الآضداد- الذي لا تخطئه العين أينما وحيثما نظرت إلي صراع الأضداد, الذي سرعان ما ينتهي إلي تيه في الرؤية, وغبش في المفاهيم, بل سرعان ما ينتهي إلي صدام مستعر, وفتنة عمياء, حيث يضمحل الاعتدال ويذبل الاتزان, وتفقد فيه الأمة معيار الحق,وميزان الحقيقة, وعماد الإنصاف! ثنائيات ثلاث تبرز في هذا الصدد أمام الأعين ماثلة شاخصة لا يخطئها البصر, ولا البصيرة. أولها: في أتون الموجات الصاخبة في تصور الإسلام شاعت في مجتمعنا بتأثير عوامل شتي: تصورات مغلوطة عن الإسلام تحت وهم الدفاع عنه, فمن تصورللإسلام علي أنه دين التشدد والغلظة, وعلي أنه دين التمسك بالحرفيات الجافة المصمتة, والجمود المتصلب والشكليات الجوفاء بدعوي الاستناد إلي تفسيرات انبعثت من رقدتهاالهاجعة في بطون الحواشي والغرائب,وتحت وهم إدعاء السلفية. ومن تصور ثان للإسلام- تحت وهم الإدعاء بالدفاع عنه أيضا- علي أنه دين طارد ليس له من هم إلا التكفير والتفسيق والتبديع وإزهاق الأرواح وسفك الدماء. ومن تصور ثالث للإسلام- تحت وهم الإدعاء بالدفاع عنه أيضا- بأنه حليف لعبة السياسة حيث المناورات والحسابات الآنية والزج به في مستنقع السياسة الآسن. كل هاتيك الروافد علي نحو متآزر- قد أسهم في تكوين صورة مشوهة بل وشائهة- عن الإسلام, لا نكاد نري فيها سوي الوجه القاتم المعتم الجامد الذي يعكر صفاءه ونقاءه وقدسيته. علي الطرف المقابل من هذه التصورات انبثق النقيض علي الوجه الآخر ولسان حاله يقول: لئن كان الإسلام علي هذا النحو فإنه لا مناص من نفض الأيدي منه- ومن تشريعاته المحكمة, ومن نظامه الاجتماعي والاتجاه نحو التنوير والعلمانية, وكأن الإسلام نفسه ويا للعجب هو مبعث هذه البلايا, ومن ثم فإن السلامة كل السلامة في هذا الزعم- تكمن في الدعوي الشائهة الصراح إلي تلك العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة في شتي صورها, بحيث لا يبقي من إلا تصورات هائمة, ومشاعر غائمة, فهذه العلمانية في هذا التصور العليل هي طوق النجاة وسفينة السلامة! ولست أدري, أي مصير بائس ينتهي إليه الناس حين تنفصل ذواتهم عن هويتهم الإسلامية الراسخة في ذواتهم الواعية, وهي تلك الذاتية التي تقوم علي الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا؟ أليست تلك الدعوة تجسدنفيا حقيقيا للكيان المصيري والوجودي لهذه الأمة, أليس في هذه الدعوة بترا مصطنعا من تاريخها وحضارتها وثقافتها؟ إن المرء- ليضع يديه علي قلبه خوفا علي مصير هذا الوطن وجزعا علي مستقبله حين يري في كلا الاتجاهين من صراع الأضداد ما يبعث علي الفزع بل والرعب, فلقد غاب عن هؤلاء وأولئك: أن الإسلام هو الدين الحق الذي كفل الله تعالي له عقيدة وشريعة وسلوكا- الدوام والبقاء, وأنه هو الدين الذي يحمل مشاعل الهداية للبشرية من أزماتها, ويسير بها إلي طريق الحق والصدق والعدل, وأنه الدين الذي يبعث في القلوب المرحمة والسكينة, ويحفظ للمجتمع تماسكه وصلته بالله تعالي في وسطية معجزة تنأي به عن غلظة هؤلاء وعن علمانية أولئك! ثانيها: لا ريب أن الإسلام كان علي مدي تاريخه الطويل- حاضنا للإبداع الفكري والحضاري, والأدبي,والعلمي; ذلك الإبداع الذي شهد له المنصفون علي اختلاف اتجاهاتهم, والذي لا تزال آثاره ماثلة, ومعالمه باقية- حتي يوم الناس هذا- ولا ريب أن هذا الإبداع لا يمكن أن يكون في هذه البيئة الإسلامية الحاضنة إلا ذلك الضرب من الإبداع الملتزم وليس الملزم- الذي تشم فيه عبق الإسلام أينما وليت وجهك شطره, ولا يمكن إلا أن يكون ذلك الضرب من الإبداع الملتزم الذي لا ينقض للأخلاق عروة, ولا يهتك للقيم حرمة, والذي لا ينحرف من الإبداع إلي التهتك والميوعة والابتذال! أمام هذه الحقيقة الراسخة انبثق طرفا النقيض, فإذا بأحدهما يري أن الإبداع لا يكون إبداعا إلا أن يسجن في أغلال من القيود المظهرية الشكلية التي تتحول به من دوره في تفجير الطاقات الوجدانية والإنسانية الرفيعة إلي أن يكون رهين المحبسين, وأعني بهما ذلك المضمون المصمت الذي يؤطره في رتاج من الآصار والأغلال, ثم ذلك الشكلالفقير الضحل الذي لا يتسع للتجارب الوجدانية المتجددة ولا للرؤي الجمالية النابضة. ثم إذا بطرف النقيض الآخر لا يري أن الإبداع لا يكون إبداعاإلا حين يكون انفلاتا من الضوابط الأخلاقية, وولوغا إلي أقصي المدي في السوءات والنزوات والسقطات, ولا يستحق أن يكون إبداعا إلا حين يلج في الحرمات المتهتكة والتي تجمل كل مهاوي السقوط ومراتع الرذيلة, وإلا حين يقتحم المخادع والأستار والحجب, وكل تلك تؤدي إلي أبشع الآثار في الانهيار الخلقي والاجتماعي الذي يدمركيان الفرد وبنيان الأسرة ونظام المجتمع. ثالثها: لا ريب أخيرا: أن الإسلام لم يكن يوما خصيما للحرية بمعناها الحقيقي, وحسبنا قوله تعالي: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, بل إن الجهاد في الإسلام- وهو ذروة الإسلام وسنامه هو في النظر الصحيح- دعوة إلي الحرية, والتاريخ الإسلامي شاهد صدق علي هذه الحقيقة التي لا ينكرها منصف. أمام هذه الحقيقة الراسخة انبثق طرفا النقيض أيضا, فإذا بأحدهما يضع أمام طلاقة الحرية الفردية والمجتمعية- من العوائق والموانع ما ينحرف بها من عن وجهها المضيء, فنري كثيرا منهم علي سبيل المثال يري في الأمر الشرعي الإلهي بالمعروف والنهي عن المنكر: قسرا علي الناس, وارتهانا لشخصياتهم, وتفزيعا وترهيبا لهم, وكأنهم يرون بنظرهم هذا أن المسلم لا يكون مسلما حقا إلا حين يقاد إلي إسلامه بالسلاسل, وإلا حين يكون إسلامه رهبا ورعبا, بمنأي عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. ثم إذا بالطرف النقيض يري في الحرية ما يجعلها معادلا موضوعياللتحلل والانفلات, والسير علي غير هدي من الله تعالي, متصورا أن الحرية- كل الحرية إنما تتمثل في الجرأة الجسور علي سائر المسلمات العقدية والشرعية والخلقية, وبدلا من أن تكون الحرية: أداة للوحدة والتآزر والبناء: تمسي الحرية بهذا التصور المنفلت معولا يهوي به كل من شاء.. علي من شاء وقتما يشاء, وكم انتهكت بدعوي هذه الحرية المزعومة أخطاء وخطايا تجل عن الحصر, ثم أقول.. أليست الشكاية التي تصورها أبو العلاء هي ذات الشكاية التي نفزع منها في أزمتنا الراهنة! ثم أضيف: أليس الخاسر الأكبر في هذا النقع المثار هو الاعتدال! عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى