إرهاق ما بعده إرهاق, بعد سماع صوت الرصاص ورؤية الجثث والدماء أسهم الإعلام المرئي, والموازي علي اليوتيوب في شد كل أعصاب الإنسان المصري وفتح جروحه نفسيا واجتماعيا, فاعترته حالة من الحزن الدفين, الصدمة المضاعفة, الألم العميق, الذهول, التوتر, القلق, الخوف, اللاطمأنينة, عدم الأمان, الرعب.. وأحيانا اللامبالاة الشديدة وكأن شيئا لم يكن, وكأن الأمر كان محض فيلم, حدث ومر, عبر, لم نر سوي بعض آثاره علي الأرصفة والمدرعات وحظر التجوال. تجرحنا الأحداث منذ بدايتها في52 يناير1102, وحتي تضاعفها وتحولها لوحشية لم نر مثلها من قبل, قبل وبعد وخلال فض اعتصامي رابعة والنهضة, لتأخذ ذروتها, ومن قبلها المشهد الدموي في أرض الفيروز سيناء. العقل المصري مما لا شك فيه أصابه ارتجاج, صدمة, هزة, لابد من علاجها وتأهيلها, وهذا أمر واجب ينطبق علي الجميع سواسية دون تمييز أو إقصاء. لقد تعرض الذهن المصري لاختراق دفاعاته, تلك التي كانت تحميه, فكان له الترويح والاختيار والأمان, الآن هو وجه لوجه أمام موسيقي حماسية وموسيقي أفلام رعب وأكشن, أحاديث خوف بين الناس في الأسانسير والمسجد وعند البقال والحلاق, في ساحة العمائر وأمامها. اخترق عصب المصريين البصري رشاش أحمق, صوت رصاصات ونحيب أرامل وصراخ ثكلي, ناهيك عن الأطفال الذين حرموا من حياتهم الطبيعية, وهؤلاء الذين استخدموا دروعا بشرية وكتلا للابتزاز وهم يحملون أكفانهم علي أيديهم. إن للذهن قدرة علي استيعاب هجمة تلك المثيرات عبر حواسه الخمس, علي الرغم من أنها أكبر من طاقته, ومن تحمله, إن حالة اللايقظة, الحالة العادية التي يكون فيها الإنسان لا مسترخيا ولا مشدودا وتسمي الحالة ألفا, تختزن خلفها كتلا من التجارب, الأحلام, الأفكار.. بكل فهمها وتفسيرها وتأويلها واستخدامها, هذه الوحدات بكل ما تحمله من خبرة الإنسان وتراكمات حياته تضطرب بعد الصدمة, ترتبك وتبدأ الفوضي في غزوها, فتتشظي وتتحول إلي مزق من أحاسيس غير مدركة غير محددة وغير متعارف عليها. تأتي مجموعة أخري تسمي بيتا.. عناصر بيتا التي تطرد, تفرغ ما يملأها ويطفح عليها وعنها, إلي أماكن أخري في الدماغ, مما يوجد حالة من الشجن والشدة والكرب والضيق, وهذا ما يفسر وضع أناس كثيرين, خاصة هؤلاء الذين كانوا يتلقون علاجا نفسيا فيما قبل, إن حالتهم تسوء رغم العلاج, أما هؤلاء الحساسون فتظهر عليهم الحالة فورا, بينما البعض يصير الأمر( كامنا) مما يستدعي ظهورها بعد ستة أشهر أو سنة, ويكون علاج هؤلاء أصعب ويصير رعبا مجهولا يتمثل في ذهنية وخيال المصري, يلح عليه, يزعجه ويؤلمه, خاصة هؤلاء الذين عاشوا الأحداث, سواء في الاعتصامات والمواجهات من متظاهرين معتصمين, أو رجال شرطة أو جيش, أو هؤلاء القاطنين مساكن أو فاتحين محال أو يشغلون أعمالا متاخمة للأحداث, مما أدي إلي مواجهة مزدوجة, واحدة حية, قاسية جدا, وأخري مصورة, مجتزأة عليها توابل وبهارات, من صوت وتعليق وحماسة المذيعين, إلي تشنجات الضيوف والموسيقي الصاخبة والFilling الذي يبدو أحيانا كثيرة شديد الإيلام, ويأتي بصورة عكسية مرتدة, تعود علي المشاهد بالعذاب وكأنه يعيش جحيمين, جحيم الشارع بكل لوعته ودمائه وجثثه ورصاصه وعذابه, إلي جحيم الإعلام بكل عشوائيته في نقل الخبر وتحليله واستضافة ضيوف أحيانا ما يصبون علي النار زيوتا. يجد الإنسان نفسه نهبا لدقات الساعة, إذا ما حان وقت النوم أو ربما نام علي الكرسي أمام التليفزيون ليكمل ال42 ساعة هكذا, ويجد نفسه لا يفكر في شيء أي شيء, أو أنه عاجز عن التفكير في شيء محدد. إن الصدمة وتتابع الأحداث من ضرب نار, جثث, رفح, المجندون, المدرعات, السحل, التمثيل بالجثث, أمريكا, الاتحاد الأوروبي.. كل هذا يحتاج إلي عمل ذهني شديد, مشحون ومركب, يحتاج إلي طاقة ووقود. في العلاج والتأهيل نحتاج إلي إعادة الذهن إلي حالته الأولي( اللايقظة اللااسترخاء), الحالة العادية غير المشدودة, ببساطة أن يستعيد الإنسان طبيعته ونمطه الإنساني العادي, أي أن يكون في الحالة ألفا, إن الصدمة بشقيها الكمي والنوعي, ترهق الذهن وتترك الإنسان في مصر نهب التوحش والغرابة والمبالغة والتطرف والتشدد, ليس فقط في حمل السلاح, ولكن علي المدونات والفيس بوك وتويتر وفي الإذاعة وعلي شاشة التليفزيون. كان شباب الثورة( تري هل نتذكرهم فيما بعد52 يناير) يواءمون ما بين حياتهم العادية ونضالهم اليومي الذي لا يكل, كانوا هم من استمروا رغم أنف العسكر والإخوان, وضغطوا علي إدارة طنطاوي لعمل انتخابات رئاسية مبكرة تنتهي في6/03/.3102 تقول سيدة في الثالثة والثلاثين من عمرها, كانت آتية من بلدتها بني سويف مع أخيها الذي يعمل ويعيش في هولندا مع أسرته, تقول:( تحركنا من بني سويف قبل إدراكنا وعلمنا بحظر التجوال, الذي وقع علينا ونحن في عرض الطريق, وقفنا في صحراء دهشور من الساعة9 مساء حتي الساعة6 صباحا ولا حمامات ولا فرصة لأطفالنا الرضع للغيار أو الحركة, بعدها بعشرة أيام حلمت بابني يقع من الشرفة, وأن مجموعة من الثعابين تجري خلفي ولا يدركها الموت مهما ضربتها وحاربتها, أحس الآن بألم في الرأس, ليس صداعا, لكن ثقلا وتشوشا ودوخة, عدم التركيز وقيء مستمر), إن أعراض السيدة هي لقلق ظل كامنا لمدة عشرة أيام, والعلاج لن يكون فقط بالدواء, ولكن بالحوار النفسي والاسترخاء الذهني والجسدي, باللجوء إلي متخصص يتمكن من استدعاء تركيبة الصدمة التي امتصها العقل الباطن, فكها وحل شفراتها وإعادة الحياة العادية للمصاب مع إضفاء( المرونة) علي كيانه, وتمكينه من آليات التأقلم والتعامل مع وحشية الأخبار والأحداث وما يدور من أمور داخل كيان الأسرة الصغيرة والممتدة, البحث عن المبهجات ومفرحات النفوس, تناول الغذاء الصحي, استنشاق الهواء الطلق, تجنب مصادر الإعلام بغثها وسمينها قدر الإمكان. لمزيد من مقالات د.خليل فاضل