في26 ديسمبر1991 أعلن الناعي موت الدولة الشيوعية الأولي ومعها موت الكتلة الشيوعية. وقد يبدو من صياغة هذا النعي أن ثمة علاقة عضوية بين الشيوعية كفكرة والشيوعية كدولة. لكن الرأي عندي أن هذا الذي يبدو أنه كذلك ليس كذلك. فالفكرة أية فكرة, هي ابداع من العقل, وحيث إنها كذلك فهي فكرة نسبية بحكم نسبية العقل وبحكم تغير الوضع القائم. ولكن مع اشتهاء العقل قنص المطلق فقد تتحول الفكرة من فكرة نسبية إلي فكرة مطلقة فتفرض ذاتها علي الوضع القائم ثم تتمكن منه لكي تشعر مع هذا التمكين بالأمان الذي هو غاية الانسان. والسؤال إذن: ما هو الشرط اللازم لاحداث ذلك التحول؟ أن يعتقد الانسان أن فكرته صادقة صدقا مطلقا, وأن اعتقاده بأن امتلاكه لهذا الصدق المطلق كفيل بأن يجعله علي وعي بأنه مالك للحقيقة المطلقة. والسؤال بعد ذلك: ماذا يحدث للانسان عندما يصبح علي وعي بأنه مالك للحقيقة المطلقة وبأنه مجسدها في الواقع النسبي؟ يصدر حكما علي النسبي بأن يجهز علي ذلك المطلق المتجسد لأن النسبي في دفاعه عن نسبيته أقوي من المطلق, لأن التغير أقوي من الثبات بحكم المسار المتطور للحضارة الانسانية. وأمثل لما أقول بما حدث في أوروبا في العصور الوسطي عندما تحولت المسيحية إلي نظام سياسي مطلق يتحكم في مصير الانسان, بعد أن انتزع منه حريته مستعينا في ذلك التحكم بمحاكم التفتيش. وقد قيل عن هذا الذي حدث في أوروبا في ذلك الزمان بأنه ظلام. إلا أن هذا الظلام قد انزوي بسبب الاصلاح الديني في القرن السادس عشر وبسبب التنوير في القرن الثامن عشر. وبناء عليه يمكن القول إن ما حدث في عام1991 هو شيء مماثل لما حدث في العصور الوسطي عندما ارتقت الفكرة الشيوعية إلي مستوي المطلق واشتهت عند هذا المستوي بأن تكون متجسدة في الواقع النسبي فانهارت وماتت. وأظن أن ستالين أدي دورا أساسيا في إحداث ذلك الموت, إذ هو الذي أشاع في الدولة الشيوعية الأولي هذا الاشتهاء لقنص المطلق, وهو الذي أدان أية محاولة لنقد ماركس أو الماركسية. وإذا أردتم مزيدا من الفهم فاقرأوا كتابي المعنون محاورات فلسفية في موسكو. والسؤال إذن: ماذا حدث بعد موت الشيوعية؟ حدثت هزة فكرية بدايتها كانت في صيف عام1993 عندما نشرت مجلة فورين بوليسي أي شئون أجنبية مقالا لأستاذ بجامعة هارفارد اسمه صموئيل هنتنجتون تحت عنوان صدام الحضارات؟. لم يلتفت أحد إلي علاقة الاستفهام, وبالتالي لم يلتفت أحد إلي الاشكاليات الكامنة في المقال والتي لم يكن صاحب المقال مستعدا لإثارتها والاجابة عنها. ومع ذلك فان المقال قد أثار جدلا حادا لمدة ثلاث سنوات, وهو ما لم يحدث لأي مقال آخر منذ الأربعينيات من القرن العشرين. فقد وردت إلي المجلة تعليقات من كل القارات ومن كل البلدان. والذي أخاف الكل وأزعجهم هو الفرض الذي وضعه هنتنجتون وهو أن الصراع القادم لن يكون ايديولوجيا أو اقتصاديا إنما سيكون ثقافيا, ومن ثم سيكون بين الحضارات, وسيؤدي الأصوليون, في الأديان المتباينة, دورا أساسيا في تدمير العلمانية. وسيترتب علي ذلك انعكاس الحضارات علي ذاتها, وبالأخص الحضارات غير الغربية ومن ثم تنشأ الحضارة الآسيوية في اليابان والحضارة الهندوسية في الهند وإعادة الحضارة الاسلامية في الشرق الأوسط. وسيترتب علي ذلك أيضا أن تكون الهويات دينية وينقسم البشر إلي نحن وهم. بيد أن الصراع الأساسي سيكون بين الاسلام والغرب, أو بالأدق سيكون الاسلام هو التحدي الموجه إلي الغرب. والسؤال إذن: ما مغزي قول هنتنجتون إن الاسلام يتحدي الغرب؟ الرأي عندي أن هذا التحدي يعني أن العالم الاسلامي يريد أن تكون قوته العسكرية والاقتصادية مساوية للغرب مع تباين نسق القيم عند كل منهما, وأن هذا التباين هو جوهر الصراع, أي أن الغلبة ستكون لنسق دون آخر, الأمر الذي يترتب عليه انزواء أحد النسقين أو بالأدق انزواء إحدي الحضارتين, ومن ثم تبقي حضارة واحدة في نهاية المطاف. إذن صراع الحضارات في أساسه هو صراع من أجل بقاء حضارة واحدة. فهل معني ذلك أن هذه الحضارة الواحدة هي حضارة الغرب وما عداها ليس كذلك أو أنه قد جاء الأوان لتكون حضارة أخري هي البديل؟ أظن أن جواب هذا السؤال كامن في مسار القرن الحادي والعشرين. لمزيد من مقالات مراد وهبة