مظاهر عديدة نراها في مصر تكشف عن تراجع ملحوظ في الخوف من الدولة. ومظاهر أخري تدعو بشدة إلي الخوف علي الدولة. والخوف من الدولة والخوف علي الدولة وجهان لعملة واحدة هي الحرص علي بقاء الدولة وفعاليتها. فالدولة لكي تبقي فعالة يجب أن تحظي من ناحية بالهيبة واحترام الناس الكامل لشخصيتها, وتتمتع من الناحية الأخري بولاء الأفراد وإخلاصهم التام لها. الخوف من الدولة ليس خطأ طالما وضع في سياقه السليم. فالناس يجب أن تخاف الدولة. خوف الخشية وليس خوف الهلع. خوف الاحترام وليس خوف الإرغام. خوف الواثقين وليس خوف المذعورين. خوف يتجلي في امتثالهم لأحكام القانون وامتناعهم عن التعدي علي المرافق العامة. لكن أكثر المصريين لم يعرف ربما إلي الآن كيف يعبر بشكل سليم عن خوفه من الدولة. خفنا منها خوف المذعورين لعقود طويلة. فقد كانت تبني وتعلي حاجز الخوف أمام الناس ولم يكن معظمهم يجرؤ علي تخطيه. ثم فجأة وفي25 يناير2011 سقط الحاجز بالكامل بعد فترة من التصدع التدريجي. اكتشفنا أن انهيار الحاجز كان منطقيا لأنه لم يتأسس علي قواعد سليمة وأنه لم يكن حاجز هيبة من الدولة وإنما حاجز إرهاب صنعته الدولة. وحواجز الهيبة لا يسقطها الناس لأن الدولة تبادر فتحترمها فيبادل الناس بالمثل باحترامها. أما حواجز الإرهاب التي تبنيها الدولة فيسقطها الناس حتي لو تحملوها طويلا لأنهم في النهاية لا يطيقون أن تعاملهم الدولة بما لا يتفق مع الفطرة أو ينتهك الكرامة الإنسانية. سقط حاجز الخوف. لم يعد المصريون مذعورين من الدولة وهذا جيد لأن الخوف الهستيري من الدولة ليس مطلوبا. لكن بدلا من أن يخافوها خوف الهيبة البناء ذهبوا إلي النقيض. ذهبوا إلي التعدي عليها واجتراح سلطاتها. لم يصبح خوفهم منها خوف هيبة بعد أن كان لعقود خوف خيبة. دخلوا في اعتصامات وكثفوا التظاهرات, وبدأت جماعات تمارس أعمال البلطجة وقطع الطرق وإشغال الميادين والاستيلاء علي الأراضي والتوسع في البناء بلا ترخيص ومظاهر أخري عديدة لمخالفات تنفي عن الدولة هيبتها. والأسوأ من كل ذلك جاء علي صورة خطاب سياسي علني يهاجم الدولة وأجهزة الدولة بدعوي ممارسة الحرية. ولا يزيد عن ذلك سوءا إلا لجوء بعض القوي السياسية إلي حماية نفسها بغطاء خارجي والدخول في علاقات مريبة سواء مع الخارج القريب أو البعيد تتخطي الدولة بل وتستقوي بالأجنبي عليها. أما الخوف علي الدولة فشعور سائد بين شرائح واسعة من المصريين أبرز ما دفع إليه كانت تصرفات الإخوان المسلمين خلال عام واحد. فقد تصرفوا بلا خوف علي الدولة عندما قدموا الجماعة عليها وعندما جعلوا الولاء للأمة أهم من الولاء للوطن, وعندما تقاربوا بسرعة مذهلة مع حماس وابتعدوا بسرعة أكبر عن مشاركة باقي القوي الوطنية المصرية, وعندما جلبوا من الخارج وأفرجوا من الداخل عن آلاف العناصر الإرهابية لتصبح شوكة في خاصرة الدولة في سيناء. كما خاف المصريون علي الدولة من الاستقطاب الحاد بين القوي الإسلامية والمدنية. لكن خوفهم وصل إلي ذروته قبيل عيد الفطر عندما رأوا جهارا نهارا قيادات الإخوان وهم يجلبون الخارج إلي قلب المشهد السياسي وحفزه علي ممارسة ضغوط علي إرادة المصريين تدفع بالخوف علي الدولة إلي أعلي درجاته. فهذه الضغوط لا هم لها إلا خلق حالة من ازدواجية السلطة في مصر. وهذا أمر خطير للغاية. كشف عن نفسه خلال الأيام القليلة الأخيرة. فالإخوان من ناحيتهم تمسكوا بالبقاء في الميادين. والخارج من ناحيته بدأ يستغل اعتصامهم ليضغط من أجل عملية سياسية تقوم علي الندية بين الدولة والجماعة, ليتحول المشهد بالتدريج من ثورة عاقب الشعب فيها جماعة خالفت حتي الدستور الذي وضعته إلي تسوية بين معسكرين يبدو كل منهما ممسكا بجانب من السلطة. وازدواجية السلطة فخ عظيم وخطر جسيم يدعو للخوف بشدة علي الدولة, لا يقل بحال من الأحوال عن خطر الإرهاب في سيناء أو الاستقطاب الذي شق صف المصريين ولايزال, بل قد يزيد عليهما خطورة. واستعادة الخشية من الدولة لا تنفصل عن التصدي للخوف الجارف علي الدولة. فالدولة التي يخشاها الناس دولة مهيبة. خوفهم منها ليس هستيريا وإنما خوف بناء لأن الدولة المهيبة المطلوب استردادها ليست دولة البلطجة القديمة. ليست هي التي تنكل بالمواطن أو تنتهك حقوقه أو تعمل لمصلحة فرد أو أسرة. فتلك كانت دولة معيبة وليست مهيبة. الدولة المهيبة هي التي تفرض القانون ولا تجامل. هي التي تحمي المجتمع وليس مصالح من يديرونها. هي التي تحتكر استعمال القوة ليس للبطش وإنما لحماية المجتمع وضمان استقراره. الخوف من هيبة الدولة هو الذي يهدئ الخوف علي سلامة الدولة. والدولة المصرية الآن عليها أن تبدأ باسترداد هيبتها. وعليها في سبيل ذلك ألا تتوقع أن يعود المواطن إلي الانكماش أمامها أو الذعر منها. ومع هذا فإن المواطن الذي اكتسب جرأة وثقة كبيرتين في نفسه مستعد لأن ينزل علي إرادتها وأن ينفذ قوانينها طالما احترمته ونفذت ما فوضها فيه من مهام. وقد فوضها مؤخرا لمواجهة العنف والإرهاب المحتملين. وعليها أن تحترم التفويض وإلا خسرت هيبتها بدلا من أن تستردها. عليها أن تنتبه إلي اللعبة الخطيرة التي يدفع إليها الإخوان والأمريكان. فهم يعرقلون المسيرة ويشترون الوقت. يريدون أن تبقي الأوضاع علي ما هي عليه طويلا حتي يبدو أن في مصر سلطتين وأن الشرعية محل تنازع. إن ازدواج السلطة خطر لا يجب السماح به. مطلوب أيد قوية لا ترتعش وعادلة لا تبطش حتي يعود للناس الإحساس بهيبة الدولة ليقل بالتالي خوفهم علي الدولة. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات