مازال الإحساس بالخوف والقلق وعدم الشعور بالاطمئنان والراحة يتصارع مع الأمل في إعادة بناء الدولة علي أسس سليمة مبشرة, بالقضاء علي الفساد والعشوائية في إدارة شئون حياتنا, فالخروج علي القانون والاحتجاجات المستمرة بعيدا عن الأطر القانونية والمؤسسات الحاكمة وتردد الشرطة في التعامل مع الخارجين عن القانون خوفا من الاتهامات المسبقة بالعنف, جعل الخوف سيدا للموقف مع مختلف الأطراف, مما يحتاج منا إلي جهد فكري وعملي للقضاء علي الخوف الذي لو كان رجلا لقتلته! ومن قسوة الخوف نجد القرآن الكريم تناوله في العديد من المواضيع مثل: الا تخف نجوت من القوم الظالمينب, اأقبل لا تخف إنك من الآمنينب, الا تخاف دركا ولا تخشيب, الا تخف إنك أنت الأعليب, الا تخافا إنني معكما اسمع وأريب, لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون, وليبدلنهم بعد خوفهم أمنا, وآمنهم من خوف, وغيرها من المواقف التي ثبت فيها رب العالمين رسوله الكريم, فالخوف لم يترك حتي الأنبياء, فما بالنا بالبشر العاديين مثلنا, الذين تتضاءل قدرتهم النفسية في مواجهة الخوف بازدياد مصادر التهديد وتنوعها مع تعقد الحياة, ولم تعد نصيحة الإمام الشافعي مجدية إلي الحد الكافي للإحساس بالأمان عندما قال: لاتجزع لحادثة الليالي, فما لحوادث الدنيا بقاء! وتأتي احتياجات الأمان في المرتبة الثانية من احتياجات الإنسان الأساسية, بعد الحاجات الفسيولوجية من الأكل والشرب, حسب اهرم ماسلوب الشهير, حيث رتب العالم الأمريكي إبراهام ماسلو احتياجات الإنسان في نسق متصاعد من الأولويات يعتبر الإحساس بالأمن والنظام والحماية من الاحتياجات الأساسية التي لا يستغني عنها الإنسان, فمن يستطيع التكيف مع الخوف من المجهول والغموض والفوضي والعشوائية والإرهاب!, لذلك لم أكن استغرب إقبال الناس علي عناصر الشرطة في الشوارع بالترحيب لعودتهم إلي مكانهم الطبيعي وسط أهلهم لحمايتهم وتنظيم حياتهم, ويا لها من مهمة صعبة في الأوقات العادية, فكيف حالها في زمن الثورة والتغيير وتراكم المشكلات والأحقاد السياسية والاجتماعية, التي تخلي عن التصدي لها جميع الأطراف وتم إلقاؤها كليا علي كاهل الشرطة, فكان من الطبيعي أن تنجح الشرطة في حل بعضها, وتفشل في بعضها وتتجاوز في أخري, مما يستوجب الحاجة إلي إعادة رسم الصورة النمطية للشرطة في حياتنا, ورسم هذه الصورة ربما بدأ بتغيير شعارها إلي الشرطة في خدمة الشعب ولكنه لا ينتهي عندها. لقد كانت الصورة النمطية لرجل الشرطة تتمتع بهيبة واحترام بالغين فنجد الشاويش في الأفلام المصرية القديمة مصدرا معتبرا للأمان والحماية والحضور اللافت في كل مكان يوجد فيه الناس, ولا ننسي الفنان نجيب الريحاني في أحد أفلامه وهو ينادي علي الشاويش متهما نفسه بأنه احراميب حتي يسحبه للقسم لينجو بنفسه من القوم المجرمين, فالإدانة في حماية الشرطة أفضل من الحرية في كنف المجرمين, فكانت صورة الشاويش المستقرة هي المنقذة المهابة! الصورة النمطية لا تتكون عبثا, ولكن من تراكم الأفعال والسلوك علي أرض الواقع, فالشرطة عنوان الدولة,وهيبتها من هيبة الدولة وعندما تتراجع هذه الهيبة تتأثر مجالات الحياة كلها, التي تقوم علي الاستقرار والأمن, فتتراجع أنشطة الانتاج والاستثمار والسياحة وأيضا التقدم الثقافي والاجتماعي الذي يتدهور مع الانفلات الأمني داخل الشرطة وخارجها, فلا تنمية حقيقية دون شرطة قوية. تأثرت الصورة النمطية للشرطة عندما تورطت في العملية السياسية فأصبحت الشرطة في خدمة النظام السياسي, مهما كان فاسدا ويفتقد القبول الشعبي, وتراجع الإيمان بجديتها في حماية أمن المواطن, بل أصبح المواطن يخشي علي نفسه منها, فلا ننكر أن هناك من يظن نفسه فوق القانون لا خادمه, فكانت صورة الراحل( خالد سعيد) غنية عن أي إيضاح للانحراف الذي طال نفر من الشرطة, فأصاب سمعة الجهاز كله, وغطي علي أبطال وشهداء الشرطة النبلاء, الذين راحوا ضحية الإرهاب الأسود وتجارة المخدرات وراحوا تحت الأنقاض في عمليات الدفاع المدني لانقاذ الناس من عمارات آيلة للسقوط أو في الحرائق وغيرها من المهام الخطرة, التي أنجزوها بنجاح فسلم الناس ولم تسلم أرواحهم الطاهرة, ولكني لا أنسي بالذات ذلك الشاب الضابط حديث التخرج الذي شك في استغاثة فتاة مخطوفة فطارد الجناة الذين تكاثروا عليه فقتلوه ولاذت الفتاة بالفرار, لتحكي لنا عن شجاعة نادرة وشهامة إنسانية رفيعة لرجل الشرطة. هؤلاء الأبطال الشرفاء هم القاعدة التي يجب أن يعاد عليها بناء الصورة الجديدة لرجل الشرطة, شهداء الشرطة عنوان الأخلاق الحميدة, في الإحساس بالمسئولية, والتفاني في أداء الواجب وأرواحهم الطاهرة السبيل القويم لإعادة الثقة بين الشعب والشرطة من جهة, وفي الذات لأعضاء الجهاز من صغيرهم لكبيرهم من جهة أخري, هذه الثقة تقوم علي الوعي بالمهمة الجليلة للشرطة في الحفاظ علي أمن المجتمع وحقوق الإنسان لا التورط في الصراعات السياسية أو الأيديولوجية أيا كانت, ولكن الولاء الوحيد لسيادة القانون فيحقق الشرطي كبرياء مشروعة لأهمية دوره في تحقيق أهم احتياجات الإنسان وهو الأمن! شتان بين هذه الكبرياء المشروعة والهيبة المطلوبة وبين الغرور الأجوف بالقدرة علي خرق القوانين والتجبر علي الضعفاء, ولأننا ندخل مرحلة جديدة وحاسمة في إعادة بناء الكيان الوطني ككل, فعلينا وضع الأسس السليمة لهذا الجهاز وإعادة الاعتبار لمكانته الوطنية العظيمة التي أسسها أبطاله وشهداؤه من رواد الشرطة, ونبتعد عن التعميم والاطلاق في حكمنا علي الأمور, خاصة لو كانت تخص جهازا من أهم مكونات المجتمع, ولاشك أن كل قطاع به الجيد والسيئ, وليس هناك من هو عصي علي الإصلاح مطلقا, وهذا القطاع المهم يحتاج إلي إصلاح فكري يواكب الإصلاح التقني والعلمي الحديث, لضبط الخارجين عن القانون ومحاصرة الجريمة بأساليب متطورة تتجاوز مهمة العسعس والبصاصين القديمة, التي لا تستطيع ضمان الأمن لأكثر من08 مليون مواطن. وفي بداية عملي الصحفي تم وقف فيلم اخمسة بابب فأخذ شهرة كبيرة بسبب منعه لا لقيمته الفنية, وتندر الناس عما ورد بالفيلم أن من يعتدي علي الشاويش ويسفر الاعتداء عن مجرد قطع زر بذلته الرسمية, فإنه يعاقب علي الأقل بالسجن6 أشهر, فسألت مجموعة من المفكرين الكبار في ذلك الوقت, منهم الأساتذة توفيق الحكيم ويوسف ادريس ونجيب محفوظ عن قسوة هذا القانون المجحف, فكانت المفاجأة بالنسبة لي إجماعهم علي أن الحفاظ علي كرامة الشرطة يعود بالنفع علي المجتمع ككل, فهيبة الشرطة من هيبة الدولة! المزيد من مقالات وفاء محمود