ربما يكون القلق في حد ذاته ليس شيئا سيئا فله فوائد أحيانا, منها أنه قد يكون دافعا لاتخاذ التدابير اللازمة أو يكون حافزا علي النجاح والتجويد.. لكن أن تعيش حياتك في حالة قلق دائمة, حياة علي حافة القلق.. بالتأكيد ليس هذا بقلق صحي.. إنها الحياة علي حافة الهاوية. أنت خائف ومذعور من شيء لا تعلم ما هو أو تعلم. أنت قلق من اللحظة القادمة.. خير اللهم اجعله خير.. قلبي مش مطمن.. لا تقلق تعبير نسمعه كثيرا ونقوله لبعضنا البعض مرارا وتكرارا.. ربما لنطمئن من نحبهم أو لنطمئن أنفسنا.. لكن كيف لا نقلق؟ كيف لا نقلق والظروف المحيطة سيئة, والأخبار ليست علي ما يرام, وسط مخاوف كثيرة, من النفس وعليها, ومن المحيطين وعليهم.. ومن أجلهم, ومن أجل أنفسنا أيضا؟ الأكاديميون قد يعتبرون القلق عادة ويقولون إن الاستسلام للقلق يزيده ويضخمه, ويجعله عملاقا متوحشا يأكل الصحة والوقت.. ويأكل راحة البال, فالاعتياد علي القلق ينميه, أما إهماله, فيرده إلي أسفل سافلين, ويقلصه, ويجعله طوع اليد.. ولا يأكل من الصحة ولا الوقت.. لكن هيهات, الكلام عن القلق أغلبه نظريات لا نحسن تطبيقها أو لم نتعلمها, قبل عام صدرت إحصائية عن الأمانة العامة للصحة النفسية, التابعة لوزارة الصحة, أن المترددين علي المستشفيات النفسية في العامين الأخيرين زادوا بنسبة كبيرة, بحيث يمكن القول إن61% من المصريين يعانون اضطرابات نفسية كنتيجة طبيعة لأحداث ثورة25 يناير وما تلاها, وأن59.7% منهم مصابون بكرب ما بعد الصدمة الذي انعكس علي سلوكياتهم وطريقتهم في الحياة. هذه الإحصائية ليست الدليل الوحيد علي زيادة نسبة الإصابة بالأمراض النفسية بسبب أحداث العنف بعد الثورة, فقد قالت دراسة أجرتها مجموعة من طالبات قسم علم النفس المجتمعي بالجامعة الأمريكية, بالتعاون مع الأمانة العامة للصحة النفسية, إن7,59% من المصريين اتضح أنهم أصيبوا بما يسمي كرب ما بعد الصدمة, منذ ثورة يناير وحتي الآن. وكرب ما بعد الصدمة, كما تقول د.هبة عيسوي أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس هي مجموعة من الأعراض المختلفة التي قد يعاني منها الشخص الذي يتعرض لصدمة, تختلف حدتها من شخص لآخر, وعلي رأس تلك الاعراض: القلق و التوتر, والأهم الميل إلي العنف والعدوانية. وقالت الدراسة إن سبب إصابة أفراد العينة بكرب ما بعد الصدمة كان مشاهدتهم لأحداث العنف في نشرات الأخبار, في حين أصيب47% نتيجة رؤيتهم لتلك الأحداث في الشوارع, بينما أصيب8,27% منهم بسبب تدهور أوضاعهم المالية, وإحباط أصيبوا به من عدم تحسن الأوضاع السياسية والحياتية في البلاد. لو أضفنا إليها ما يحدث أخيرا من تهديد ووعيد للمصريين بتنغيص حياتهم وتحويل أيامهم إلي حروب وقتل ودم.. كل هذا كان لابد أن ينعكس علي نفسية المصريين بالتغيير. المجتمعات كالإنسان.. يصيبها القلق أيضا كما يقول د.أحمد يحيي أستاذ علم الاجتماع بجامعة السويس, فمن وجهة نظره لسنا مجتمعا مريضا.. رغم أننا نعيش علي حافة القلق. حافة القلق حالة غريبة, فلا نحن مكتئبون ولا نحن في الوقت نفسه سعداء.. القلق غير الاكتئاب, فالاكتئاب يمنعك من القيام بأعمالك, حيث تتعطل حياتك ويتوقف الزمن عندك حتي إشعار جديد.. أما علي حافة القلق, فنحن نعمل لأننا يجب أن نفعل, حتي ولو بلا رغبة.. وبلا شعور أيضا. الاكتئاب يشعرك بالحزن, وأحيانا عدم الرغبة في إكمال المشوار, بينما علي حافة القلق نحن ماضون في طريقنا ومشاويرنا.. رغم أننا لسنا سعداء ولا أمل لدينا في أن نكون كذلك. ببساطة.. نحن نمارس أحاسيس شروق الشمس بمشاعر الغروب.. نتجمل رغم أننا لا نري ما حولنا جميلا.. نضحك بينما لو تركنا وجوهنا لطبيعتها لتحولت غلي العبوس والتكشير. نحن نرغم أنفسنا علي الحياة.. نزق أرجلنا علي التعامل والتجاوز ونحاول, بلا دافع.. بالبلدي: إحنا محطوطين.. مشاعرنا تبدو صاحية بينما هي نائمة, شدت اللحاف, ولا تريد أن تقوم.. نحن الذين نقوم ونجري ونلهث, وننظر يمينا ويسارا.. لو سألتك: ليه؟ سترد: لا أعرف.. أو ربما تتكلم عن المفروض والذي ينبغي, والمعني أننا نسعي وراء المفروض في الحياة بينما لسنا سعداء بالذي فرضته الحياة! قال بحث نشرته جريدة الجارديان البريطانية, العام الماضي, للعالم ادوارد سكوت.. إن المجتمع يجتذب الأمراض الاجتماعية الكامنة في نفوس أبنائه, وقال البحث إن الاضطرابات الاجتماعية, كما تؤثر في الاشخاص فإنها تؤثر في مجتمعاتهم أيضا.. وكما تختل عقول الأشخاص في الأزمات الاجتماعية ويشعرون بالخوف في الكوارث, فإن عقل المجتمع يصيبه الخلل أيضا, بحيث لا يستطيع الأفراد رؤية الأشياء علي حقائقها.. ولا تفسير الظواهر بموضوعية.. والنتيجة شعور رهيب بالقلق.. يثبت الشعور بالعيش علي الحافة.. وسط خوف غير مبرر.. وعوامل معاناة غير واضحة.. والأهم..غياب القدرة علي الفرح. كل ما سبق يعرفه علماء النفس بالشخصية المحترقة.. وتشرح د.هبة عيسوي أستاذ الطب النفسي أنه الخليط النادر بين مرحلة الاكتئاب ومرحلة القلق, وهي التي تقع في المسافة الفاصلة بين الحياة واللا حياة. الشخصية المحترقة هي التي تسلك كل طرق الحياة دون مشاعر حقيقية أو رغبة في الحياة. ولما لا ونحن نعيش في مجتمع تسيطر عليه نزاعات الحياة أو الموت.. خناقات البقاء وسط خوف شديد من المستقبل, مما يجعل لدي أفراده شعورا دائما بضرورة الاختيار القاطع, إما الأبيض أو الأسود.. لا وسط, كل ذلك يضغط علي أعصابنا ولا أمل في شفاء قريب أو التخلص من حياة الحافة, سواء بالشعور بالارتياح والطمأنينة أو حتي وقوع ما نخشاه.. دوامة قلق نصارعها منذ سنوات.. حلها الوحيد كلمة بدأنا بها..لا تقلق فلعل الأفضل لم يأت بعد..