إلي الذين يتساءلون: هل أصاب أبو العلاء المعري حينما قال إن أس البلاء الفكري هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة, فإذا جلا لك صاحب السيف صارمه, وتلا عليك باطله, زاعما انه هو وحده الصواب المخلص والصدق الصراح, فماذا أنت صانع إلا ان تقول له نعم وأنت صاغر. أتصور أن30 يونيو2013 قد رد علي هذا السؤال في ميادين مصر. ونحن إن كنا نريد التغيير من أجل تحقيق الحرية الكاملة للمواطن المصري بعد30 يونيو, لا يصح ونحن نصل حاضرنا بماضينا, القريب( ثورة25 يناير2011) أن نترك الغلبة للتقليد, اي نقل الخبر عن المخبر دون التمييز بين الصدق والكذب, وإذا نكب المجتهد عن التقليد فما يظفر بغير التبليد, فيمضي الزمان والمقلدون نائمون علي المخادع التي يقلدونها أو يزعمون أنهم يقلدونها, والحقيقة هنا هي انهم مثل( دون كيخوته) يقلدون الفرسان الاصائل بلبس الدروع ولكنهم يضعون الدروع علي خواء لا فروسية فيه, فينهارون لأول نفخة نفثها هواء, فنحن إذا نثور علي اتباع التقليد الأعمي, فإنما نثور علي جانب من التراث بجانب آخر منه يمكن ان يكون أوضح سبيلا وأهدي, علي أن نحلل المواريث لنأخذ منها الجزء العاقل المبدع الخلاق, وننبذ منها الآخر الخامل البليد, لا نقف عند مضمونها وفحواها, نبدي ونعيد, بل نستخلص منها الشكل ونملأ هذا الشكل بمضمون من ثقافتنا وتاريخنا وديننا وخبرتنا, وأقصد هنا القيمة وطريقة النظر وميزان الحكم مجتمعة, كمن يستعير من صاحبه منظارا مكبرا لا ينظر به إلي المشهد نفسه, بل ليكون له هو مشهده الخاص وإدراكه المتميز الأصيل, برغم المشاركة مع الآخر في منظار واحد.فإذا أخذنا عن الحكماء منظار العقل الذي استخدموه وهم أشداء أقوياء, لانبعثت لنا علي الفور أسس جديدة نقيم عليها حياتنا الفكرية الحرة ممزوجة بمواريثنا الاسلامية العربية التي أساسها الحوار الحر الذي تتعادل فيه قامات الناس فلا فرق بين مسلم ومسيحيولا خادم ومخدوم ولا حاكم ومحكوم ولا أغلبية وأقلية.حتي لاتتكرر اخطاء ما بعد يناير2011 مرة اخري. وإن تفاوتا بعد ذلك في سداد الرأي وقوة الحجة, ويكون الصواب هو المعيار الذي تمليه تلك الفكرة, ويكون الخطأ هو الجرأة علي مناقشتها فضلا علي تجريحها والتمرد عليها. والأصل في حرية الفكر, وهو ان يكون حوارا بين لا ونعم وما يتوسطهما من ظلال وأطياف فلا الرفض المطلق يعد فكرا, ولا القبول المطلق يعد فكرا.ففي الأول عناد الأطفال, وفي الثاني طاعة العبيد, الله وحده هو الذي وسع كرسيه السموات والأرض, فاتسع علمه للحق كله, يعلمه علم اليقين, علما لا ريب فيه. اما علمنا نحن البشر فأقصاه معرفة تحتمل البدائل نرجح فيها بديلا علي آخر, فما من فكرة إلا وتحتمل ان يكون نقيضها هو الصواب, وكل ما يعنينا هو ان نتقصي جميع الممكنات ليقوم بيننا حوار ليثبت احدها ويقصي سائرها, وغالبا ما تتمثل هذه الممكنات العديدة في أفكار افراد كثيرين ومن خلال ممارسة عملية الحوار نقبل ونرفض من الآراء المعروضة ما نشاء, شريطة ان يكون القبول هنا قبولا لما نظن انه صواب ويكون الرفض رفضا لما نظن انه خطأ في حوارمجتمعي موسع يشتمل علي كل الاطراف, لا إقصاء فية لاحد لا الفاسد الضال و المضلل للوطن ومصالح الشعب, وهذا يجب ان يكون هو النهج الجديد.وان كان الظن هذا هو سمة لامفر منها في الفكر البشري ان كان غربيا أو عربيا اصيلا.وبمثل هذه النظرة إلي نعم ولا يصبح نسبيا ما حسبناه باديء الأمر مطلقا, ويصبح مبصرا ما كان باديء الأمر مكفوفا في مواقف القابلين والرافضين.وعليه لم تكن مصادفة ان أخذ سقراط يطوف في الأسواق محاورا, بل كان امرا مدبرا مقصودا ليكون امام الناس, بمثابة الإعلان عن الحرية الفكرية كيف تكون( مثلما حدث في ميادين مصر الحرة بعد ثورة يناير, ثم من بعدها في ما جاء منتصحيح في يونيو2013) فكان سقراط يريد لنفسه ان يكون سؤالا وجوابا, أخذا وعطاء بل يريد لنفسه ان يكون حصيلة مداولة ومجادلة ومقاولة, تنصب علي العقدة المطروحة للحل, إلي ان تنحل خيوطا خيوطا فتنفصل لحمة المشكلة عند سدادها, وتتعري هياكل الأفكار والمذاهب, ويتضح بنيان العقل, ويضم الصواب إلي الصواب, فتكتمل في أذهان الجميع صورة الحق الذي يجب ان نسير به علي صراط الهدي من خلال دستور جديد أو معدل لما نحن عليه الآن, يعبر عن كل شعب مصر لاعن فصيل أو فصائل بعينهافقط.تلك هي طبيعة الفكر الحر الذي يقوم علي حوار متعادل الطرف, لا يأمر فيه أحد أحدا ولايطيع فيه احد احدا, إلا بالحق, ليس فيه رجحان للاقوي علي الضعيف ولا تفضيل لطائفة علي أخري. أما إذا انقلب الوضع وانعكس فأصبح ما نسميه فكرا هو ان يأمر آمر ليصدع بأمره مطيع, واختصر الطريق الذي كان بين المتحاورين ذهابا وإيابا, فبات طريقا في اتجاه واحد, اعني ان يكون قولا من هناك وسمعا وطاعة من هنا.فعندئذ قل علي الحرية الفكرية السلام.وسوف نعود الي الوراء مرة اخري( وهذا مالا نريده ابدا). وحتي لاينطبق قول أبي العلاء في ان بني آدم بلا عقول, وهذا أمر منقول يلقنه صغير عن كبير ويظل يعيد حتي يثبت في نفسه كأنه حق, فيجب أن نناضل من أجل الحرية التي ننشدها, فهو أمر لا يوهب وإنما يكتسب وربما لقينا من نظر في كتب الحكماء, وتبع بعض آثار القدماء, فألفيناه يستحسن قبيح الأمور, وعليه فإن30 يونيو لم يأت ليستبدل ظلم طائفة بطائفة بل أتي لينصر الناس جميعا. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب