للصدفة قانون ربما لا ندركه. فهي قوة سيطرت علي كثير من أحداث التاريخ ومصائر الأمم وأقدار الأفراد. كان فولتير يسميها صاحبة الجلالة..... الصدفة اعترافا بتأثيرها. تراجع كثيرون من المؤمنين بحتميات التاريخ إلي الاعتراف بأن الصدفة لعبت دورا بارزا في حركة التاريخ. أصبح من السذاجة الفكرية أن نطمئن لكل شيء يقع باعتباره يقينا وأن نعتقد أن الأشياء تقع وفق حتمية لا مفر منها. وليس لذلك علاقة بتفكيرنا الديني في القدر وسطوته. في القرن التاسع عشر كان أنطوان كورنو وهو فيلسوف وعالم رياضيات واقتصاد يري الصدفة التقاء متزامنا بين واقعتين لا رابط بينهما وإن كان لكل منهما سببه. الصدفة التقاء سلسلتين من الأسباب مستقلتين عن بعضهما البعض. في حركة التاريخ وقعت أحداث صغيرة ترتبت عليها نتائج كبيرة. مثل قول باسكال لو أن أنف كليوباترا كان أقصر قليلا لتغير وجه العالم هو الحب والغرور الإنساني. ولولا الحصاة الصغيرة التي سدت مجري بول كرومويل في بريطانيا لقضي علي المسيحية وأطاح بالعائلة المالكة هناك وأشاع الرعب في روما. ولكن الحصاة الصغيرة كانت سببا في موته واندحار عائلته وبقاء المسيحية وعودة السلام والملكية إلي بلاد الانجليز. ولولا قرار رئيس الكتيبة الألبانية التي هبطت ميناء أبي قير في ربيع عام1801 بالعودة إلي بلاده ليتولي القيادة بعده محمد علي لما تمكن الأخير من استخدام كتيبته في الصعود بين الفريقين المتصارعين آنذاك في مصر بعد رحيل الفرنسيين ليتولي في نهاية الأمر حكم مصر وبناء نهضتها الحديثة. وللصدفة تاريخ طويل في الاكتشافات والاختراعات. ولكن الصدفة ليست أبدا بديلا عن إرادة الإنسان في صناعة التاريخ وتقرير مصائر الأمم. قد تأتي الصدفة حينا وتختفي أحيانا. فبغير إرادة الإنسان تصبح الأحداث سلسلة من المصادفات العشوائية. تظل إرادة الإنسان الخلفية العامة التي تحتوي الصدفة في النهاية. قد تقع المصادفات ولكن إرادة الإنسان قد تقلل من التأثير السلبي لها. انخفاض مستويات الوعي وتأخره جعل تاريخ مصر الحديث سلسلة من المصادفات. بدأ هذا التاريخ صدفة وصعد إلي سدة الحكم سلسلة من الحكام الذين جاءت بهم الصدفة بشكل أو بآخر. صلاة محمد علي وراء المشايخ في الأزهر جاءت به لسدة الحكم لتنشأ الأسرة العلوية ليتولي عرش مصر أكبر أبناء الأسرة طوال مائة وسبعة وأربعين عاما. كبر السن وهو صدفة جاء بمن يستحق ومن لايستحق إلي سدة الحكم. يتولي أقدار أمة غاب عن النظر في شئونها شعبها فرضيت بقرارات حكامها إن أصابوا أو أخطأوا. فأصبحت مصر رهينة إرادة حكام لم يكن لها رأي فيهم. ولم تكن الصدفة غائبة عن النظام الجمهوري الذي جاء بعد زوال الأسرة العلوية. لم يأت أي من حكام مصر بعد ثورة يوليو بإرادة شعبية رغم ما تحقق لبعضهم من شعبية هائلة ودون نكران لما تحقق علي أيديهم. فالصدفة لا تأتي دائما بالأسوأ. ومثلما تحولت الحركة المباركة للضباط الأحرار في يوليو52 إلي ثورة بإنجازاتها, تحولت المظاهرات الإصلاحية في25 يناير إلي ثورة بإنجازاتها التي تمثلت في اقتلاع نظام سلطوي عتيد لتبدأ حركة مضادة لعموم التاريخ المصري. ولكنهم وجدوا أنفسهم محصورين في الاختيار بين تيارين لم يكونا أبدا ضمن قوي الثورة. صوت المصريون في الانتخابات الرئاسية تصويتا شابه الكثير من العوار السياسي فلم تكتمل ثورتهم ولم تتحقق أحلامهم رغم الاختيار الملون بالديمقراطية. أما الذي حدث في30 يونيو فهو يبدو حتي الآن خروجا كاملا عن المصادفة في الحياة السياسية المصرية. لم تخرج الملايين في شوارع وميادين مصر من أقصاها إلي أقصاها تطالب بإصلاحات يقوم بها النظام السياسي القائم بل طالبت قبل30 يونيو باقتلاع هذا النظام وأصرت عليه وتمسكت به فكان لها ما أرادت. لم يواجه المصريون في30 يونيو نظاما شاخ مع الزمن وفقد الرغبة في الاستمرار, بل واجه نظاما طامحا عنيدا وقادرا علي المقاومة. ولكنهم بإرادتهم تمكنوا من إسقاطه. ولذلك سوف يبرز هذا اليوم في تاريخ مصر أكثر من أي يوم آخر إذا ما قدر لهذا اليوم أن يحقق في قادم الأيام طموحات المصريين في الحرية والعدالة الاجتماعية. لايزال الأمر في مصر حتي الآن خارجا عن حدود الصدفة وتأثيراتها ببقاء المصريين في الميادين دفاعا عن إرادتهم. ولكن الصدفة قد تعود إذا تراجعت الإرادة الشعبية الجارفة أو غابت رؤيتها. لم يعد إسقاط نظام سياسي كافيا لقيام دولة مصرية حديثة. ولكن التحدي الكبير الذي نواجهه هو النظام السياسي البديل الذي يسكن القصر. كيف نبنيه وكيف نختار أفراده. ليست وسائل الإعلام أبدا وسيلتنا لاختيار الوزراء وكبار المسئولين. فالواقع الحالي للإعلام المصري شديد البؤس والظهور في وسائل الإعلام مع القدرة علي مخاطبة المصريين ليست دليل كفاءة واقتدار لإدارة النظام السياسي الجديد. وليس القبلية أو العشائرية السياسية أو الثقافية وسيلة لاختيار قوي النظام السياسي المنشود. وليس بالسن وحدها تتراكم الخبرات. وليس بالثقة المطلقة فيمن نختارهم تتحقق الأمنيات. في الممارسات الديمقراطية الحديثة يخضع السياسيون لفحص شعبي دقيق حتي يتوافر الحد الأدني من الضمان بأن لديهم قدرة علي الإدارة وتحقيق الأهداف. أما أن نختار سياسيا لأنه فصيح اللسان يستنهض من التاريخ البعيد أحلاما لن تتحقق, أو قادر علي إثارة الحماسة الوطنية أو لأننا نجده ضيفا دائما في سرادقات العزاء أو يرتاد المساجد فذلك اختيار يفتح الباب علي مصراعيه للمصادفة. تطور الأمم يحتاج إلي ظروف موضوعية مواتية ودافعة نحو التقدم وقد تحتاج إلي قائد ملهم تأتي به أحيانا مصادفة تاريخية. ولكن الظروف الموضوعية هي في النهاية إرادة شعب وبدونها لايستطيع قائد ملهم أن يدفع بشعبه إلي التطور. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين