كل الثورات العظيمة في العالم قامت من اجل الحرية والعدالة والمساواة . وكانت الديموقراطية شعارها الذي يمكن أن يحقق هذا كله .وليست كل الثورات سعت لتحقيق الديموقراطية . بل كثير منها أقام مجتمعات شمولية كانت أشد وأقسي من العهود السابقة . وكان السبب هو غياب الديموقراطية التي قامت الثورة من أجلها . الثورات التي شهدتها الدول الشيوعية والثورات التي كانت انقلابات عسكرية كلها حادت عن الديموقراطية رغم أنها رفعت العدل شعارا لها .وانتهت بمجتمعاتها إلي ثورات جديدة عادت به او تعود به الي الطريق الصحيح وهو الديموقراطية كما عرفها الانسان , أي باختصار أن يختار الشعب حكامه ويكون قادرا علي تغييرهم وفقا لصناديق الاقتراع . لقد فشلت الثورات الشيوعية والانقلابات العسكرية وشاهدنا كيف انهار الاتحاد السوفيتي وكيف انهارت الشيوعية في أوربا الشرقية ونشاهد الآن ثورات في عالمنا العربي علي نظم بدأت بانقلابات عسكرية سميت ثورات بعد ذلك أو رفعت شعار الثورة وتقدمت أحيانا في النواحي الاجتماعية والاقتصادية لكنها تغاضت عن تحقيق الديموقراطية . أي حرية الشعب في اختيار حكامه . حدث هذا ويحدث بينما الدول التي تحققت فيها ثورات من أجل الحرية مثل فرنسا وانجلترا والمانيا وغيرها من الدول الاوربية وبالطبع اميركا لا تزال تحقق تقدما في حياة شعوبها كل يوم . ولقد عرفت مصر الديموقراطية مبكرا قبل غيرها من شعوب آسيا وافريقيا . تستطيع أن تقول منذ عصر اسماعيل حيث عرفت مصر اول مجلس نيابي وعرفت تكوين الأحزاب وتأسيس الصحف . وانطلقت بشكل كبير في ذلك بعد ثورة 9191. تأسست الاحزاب بمجرد الإخطار وانشئت الصحف بمجرد رغبة صاحبها وقدرته وانشئت النقابات العمالية وانطلق المجتمع المدني يبني مصر . جامعاتها ومستشفياتها ومدارسها ومصانعها وفنونها وفقا لقدرة الناس من الأعيان والمتعلمين والشعب نفسه في أشكال متعددة من الاكتتاب . وحدث ذلك تحت الحكم الملكي والاستعمار البريطاني نفسه . صحيح أن الملك والمندوب السامي كان لهما كثير من التدخل من أجل توجيه الحياة السياسية لكن كان الشعب يستطيع الانتفاض والثورة من أجل الديموقراطية الحقيقية . لم يكن في مصر شخص معين إلا الملك بحكم كونه ملكا سواء كان يملك ويحكم أو يملك ولا يحكم .وكان الشد والجذب في الحركة الوطنية والملك هو من أجل ان يحقق كلاهما هدفه . الملك يريدالملك والحكم والأحزاب والشعب تريده ملكا ولايحكم . كان رئيس الوزراء من حزب الأغلبية وكان رؤساء وعمداء الكليات منتخبين وكان رؤساء الأحياء منتخبين أيضا وهكذا . وكان للجيش مكانه الحصين وهو الدفاع عن الوطن .جاءت ثورة يولية وانتهي هذا كله بالتدريج وأصبح الحاكم مثل ظل الله علي الأرض ووصل في البغي إلي أقصي درجاته في عهد حسني مبارك الذي اتاح الفرصة لشذاذ الآفاق واللصوص والجهلاء يتبوأوا مراكز الحكم ويصادروا حق الشعب في انتخاب حكامه بل ويسومون الشعب العذاب والفقر مما فجر في النهاية ثورة 52 يناير . الآن يدور الكلام كثيرا حول الديموقراطية وكأنها شئ لم نعرفه ولم يرتق ببلادنا ويدفع بها يوما إلي الأمام . ويتم التسرع في نشر قوانين لا تتفق مع الديموقراطية الحقيقية او كما عرفناها مثل قانون الأحزاب الذي وضع شروطا لامعني لها رغم أن الديموقراطية كما عرفتها البشرية وكما عرفناها يجب أن تفتح الباب للأحزاب علي نهايته ويكون الحكم بجدية الأحزاب من عدمه للوقت والتاريخ فالحزب الحقيقي سيستمر والضعيف سيزول وحده المهم أن لا تكون علي اساس ديني . كما يكثر الكلام والشقاق حول اصدار دستور جديد وهناك من يري مثل الإخوان المسلمين أن الدستور يجب تأجيله حتي تتم انتخابات مجلس الشعب والانتخابات الرئاسية رغم أن الدستور في كل الاحوال ستقوم بإعداده لجنة من كل طوائف الشعب . لكن الاخوان لديهم الأمل أن يفوزوا بمقاعد كثيرة في البرلمان ومن ثم يكون لهم تأثير في اختيار من يضع الدستور . والواضح من التاريخ أن الدستور لا علاقة له بمن يفوز بمقاعد البرلمان وأن الدستور الذي تقدم بمصر لم يكن له علاقة بالاحزاب . دستور 3291 او حتي 4591. فمواد الدستور مواد عامة صالحة لكل زمان ومكان ولم يفسد الدستور إلا حين وضعت فيه مواد خاصة تضمن للحاكم السيطرة الأبدية ولذريته فيما بعد . الدستور الذي تقدم بمصر كان دستور الدولة المدنية وهذا لا يحتاج لمجلش شعب ولا رئيس ولكن يحتاج الي فقهاء غير منتمين لتيار سياسي بعينه ولقد فعلناها مرة . أما حين انضم للجنة تعديل بعض مواد دستورية واحد من المنضمين للاخوان رأينا بعد ذلك كيف صرح هو نفسه بضرورة تطبيق الحدود وتكفير الليبرالية والدولة المدنية أو علي الاقل ازدرائها . السؤال الذي يقلقني دائما هو لماذا هذا الجدل السياسي فيما هو غير سياسي . نهضة مصر قامت علي أسس للدولة المدنية . لا دولة دينية . والدولة المدنية لم يحدث أن جارت علي حق الناس في التدين والعبادات . بل تركت الحرية كاملة لهم في ذلك . هذا الجدل يعني أننا نبحث عن تطبيق سياسات لا بناء دستور حقيقي . وكما كان النظام السابق الجاهل يتشدق بالطبيعة الخاصة للمصريين ويختار له ديموقراطية لا معني لها ولا قيمة يحاول الإخوان تأجيل الدستور أملا في تحقيق برامجهم السياسية رغم ان نهضة مصر قامت من غيرهم .وفسدت حين وضعوا رؤوسهم في السياسة لانهم حين لم يجدوا تجاوبا من الحكام فخرجت من جعبتهم الجماعات التي تبيح الارهاب . يا ايها السادة تقدم مصر لن يأتي بوقوف المطوعين في الطرقات يصرخون اتحشمي يا امراة , ولكن سيأتي من دستور مدني يكفل حرية العبادات وكل الحريات , ولقد فعلناها مرّة فارحمونا يرحمكم الله وعودوا إلي تاريخ أمتنا حين كانت الأمة فوق الحكومة والشعب مصدر السلطات . الديموقراطية ليست لغزا ولكن التحايل عليها سيدخل بالبلاد الي صراع نحن في غني عنه بعد ثورة لا أظن ان المجتمع سيسمح بفشلها ابدا . وهذا الكلام موجه للمجلس العسكري والحكومة والإخوان المسلمين قبل غيرهم .