ليس هناك معني لأي مستوي من المهنية من موضوعية ودقة وتوازن ونزاهة ومصداقية في عمل وسائل الإعلام في ظل انعدام الحرية من تهديد الصحفيين بالحبس وحجب المعلومات والتضييق عليهم في أداء عملهم. وكذلك ليس هناك معني لحرية تمارسها وسائل الإعلام وهي تعاني تراجعا في المستويات المهنية. تلك هي مشكلة الإعلام في دول الارتباك السياسي والاجتماعي في طول العالم وعرضه, لقد كتبت الأسبوع قبل الماضي عن المهمة الرئيسية للمجلس الوطني للإعلام المنصوص عليه في الدستور, أن يحمي الحرية ويضمن المهنية. وخلال هذا الأسبوع جمعني حوار طويل مع عدد من الإعلاميين الغربيين حول القضية ذاتها, اتفقنا قليلا واختلفنا كثيرا, عشرات المنظمات الغربية تنفق بسخاء علي كل ما من شأنه دعم حرية وسائل الإعلام في العالم الثالث وهو أمر تستحق معه الشكر لولا أنها هي ذاتها أكثر شحا إن تعلق الأمر بتطوير مهنية العاملين في الصحافة الإخبارية حتي يصبح للحرية معني ولوجودها تأثير في حياة الشعوب,في الوقت الذي تنتج فيه المصانع الأوروبية والأمريكية سيارات وغسالات وبضائع بمواصفات تناسب الأسواق المختلفة, فإنهم يرفضون إلا أن تقبل منهم معاييرهم لحرية الصحافة ويرون المهنية قضية ثانوية سوف تأتي بالمزيد من الحريات. في سبعينيات القرن الماضي تعرض أحد أبرز علماء الإعلام الأمريكيين لهجوم شديد, لأنه وضع ضمن قائمة أرفع الصحف في العالم صحفا مثل البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفيتي, وأخري مثل الأهرام التي اعتبروها ناطقا باسم الحكومة المصرية, وقال الرجل إن العبرة بقدرة الصحيفة علي التعبير عن التيار السائد في المجتمع والتأثير في جمهورها, وليس في كونها تعكس معايير الصحافة الغربية. كان الغربيون يرون أن النخبة من الصحف هي فقط الصحف الحرة بالمفاهيم الغربية, جنة الصحافة عندهم في دول مثل فنلندا والنرويج رغم أنها تتلقي دعما حكوميا وتخضع لسيطرة الأحزاب السياسية, وحينما تمنع دولة مثل ألمانيا الدعاية النازية وتوزيع مضمون جنسي فاضح عبر الإنترنت وأي مواد أخري تشجع علي العنف استحقت النقد من مراقبي حرية الصحافة. الغربيون مهتمون بتطوير مقاييس لتصنيف حرية الصحافة في العالم علي النحو الذي تفعله منظمة مراسلون بلا حدود ومؤسسة فريدم هاوس, ولكنهم لايهتمون أبدا بتطوير مقياس واحد لتصنيف الأداء المهني لوسائل الإعلام في العالم, هذا العام جاء تقرير مراسلون بلا حدود ليضع مصر في المرتبة158 بين دول العالم من حيث حرية الصحافة, وجاء تقرير فريدوم هاوس لينقل مصر من كونها دولة غير حرة إلي دولة حرة نسبيا, ولكن أيا من التقريرين لم يتحدث عن مستوي الأداء المهني للإعلام المصري أو غيره من أنظمة الإعلام في العالم. ومعرفتي بالأساليب التي تتبع في تصنيف الدول في الحالتين لاتجعلني أتوقف كثيرا أمام هذه التصنيفات, وإن كنت حريصا علي متابعتها, فهي مقاييس ليست أبدا بريئة من الاعتبارات السياسية. لقد ظلم التاريخ الإعلام المصري, فحينما توافرت الحرية لم تكن المهنية قد تطورت كثيرا قبل ثورة يوليو, وحينما تطورت المهنية فقد الإعلام المصري كثيرا من حريته علي النحو الذي نجده فيما تلا عام1952, وحينما جاءت الحرية بعد25 ينايرتراجعت المهنية عن أغلبية وسائل الإعلام في بلادنا, والنتيجة أن قطاعات من المصريين بدأت تجهر بالشكوي مما تفعله بعض تلك الوسائل حتي أن البعض أصبح يعزف عن المشاهدة وأحيانا عن القراءة حفاظا علي توازنه النفسي. والخروج من هذا المأزق لن يكون بتقييد الحرية, وإنما يكون برفع مستويات الأداء المهني الذي يمكن أن يعظم من تأثير الحرية في مختلف جوانب حياتنا, ولكن من يقوم بتلك المهمة؟ يفترض أن تقوم بها المؤسسات الإعلامية ذاتها والنقابات المعنية والجمهور العام متمثلا في منظمات المجتمع المدني, ولكن المؤسسات الإعلامية قليلا ما تهتم بتنمية قدرات ومهارات صحفييها, والنقابات المعنية مشغولة بضريبة التصويت والانتخابات بكل ما يفرضه ذلك من فهم مغلوط لمبدأ انصر أخاك ظالما أو مظلوما مثل بقية النقابات المهنية في بلادنا, أما الجمهور العام فلا يزال أضعف كثيرا من إنجاز تلك المهمة علي الرغم من ظهور بعض الجمعيات التي اتخذت من الدفاع عن حقوق القراء والمشاهدين مهمة لها, والأمل معقود علي المجلس الوطني للإعلام أن ينهض بتلك المهمة إن توافرت لديه الإرادة اللازمة لذلك. في الولاياتالمتحدة التي تدعم بقوة حرية الصحافة داخل حدودها وخارجها لم تجد مفرا من الاستجابة لضغوط الرأي العام في التدخل في سياسات إعلانات أغذية الأطفال, وأقدمت بعض محاكم الولاياتالمتحدة علي تقييد استخدام الجنس في محطات التليفزيون باعتبار الجنس قيمة إنسانية لايمكن إهدارها تحت مسميات حرية التعبير, ولم تجد فرنسا مفرا من التدخل للحد من تأثير الإعلانات في المحتوي البرامجي التليفزيوني, وفرضت الجمعية الوطنية الفرنسية تحت ضغط الرأي العام علي محطات التليفزيون نسبة من البرامج الأجنبية لاتتعداها حماية للثقافة الفرنسية من فيضان المنتجات الإعلامية الأمريكية. لقد أخذت الحرية بأيدي شعوب كثيرة إلي مستويات أداء سياسي واجتماعي واقتصادي وفكري وعلمي أفضل, لأنها عرفت كيف تمارس تلك الحرية, وأن تنجو بها من أن تكون أداة لنشر الفوضي والاضطراب النفسي والاجتماعي, فإلي أين تأخذنا حرية الإعلام إن ظل المستوي المهني لكثير من وسائل الإعلام علي حالته الراهنة؟ لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين