(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم..) (الحجرات:11) هذا النص القرآني الكريم جاء في بدايات النصف الثاني من سورة الحجرات وهي سورة مدنية, وآياتها ثماني عشرة (18) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم الحجرات والمقصود بها بيوت النبي صلي الله عليه وسلم تأكيدا لحرمة تلك الحجرات وعلي حرمة كل بيت من بيوت الناس. ويدور المحور الرئيسي لسورة الحجرات حول عدد من الآداب السلوكية مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ومع عباد الله المؤمنين, ومع خلق الله أجمعين, ولذلك وصفها بعض المفسرين بوصف سورة الأخلاق. من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم: يقول ربنا تبارك وتعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11. ومن معاني (لا يسخر) أي: لا يستهزئ, يقال سخر منه أي هزئ به انتقاصا من قدره, وفي قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) أي لا يجوز للمؤمنين أن يهزأ بعضهم من بعض أو أن يحتقر بعضهم بعضا, من (السخرية): وهي احتقار الإنسان والاستهزاء به, قولا أو فعلا بحضرته علي وجه يضع من قدره ويضحك الحضور عليه, والمجتمع الفاضل الذي يحرص الإسلام علي إقامته هو مجتمع تحكمه الضوابط الأخلاقية الرفيعة التي لا تجيز احتقار أحد أفراده لفقر, أو لضعف, أو لمرض أو لعاهة أو لأي سبب آخر, وذلك لأن كل القيم الظاهرة للإنسان لا تمثل حقيقته, فمن ورائها قيم باطنة لا يعلمها إلا الله تعالي, وهي القيم الحقيقية التي يقدر بها الإنسان في معيار الله, وهو أصدق الحاكمين, والإنسان مخلوق مكرم خلقه الله تعالي بيديه, ونفخ فيه من روحه, وعلمه من عمله, وأسجد له ملائكته, ومن هنا وجبت المحافظة علي كرامته ما لم يهنها هو بنفسه, فقد يكون الفقير عند الله خيرا من الغني, والضعيف خيرا من القوي, والمعاق خيرا من سوي الخلقة, والمسترسل الساذج البسيط خيرا من الماهر العبقري, لأن الناس لها الظاهر والله تعالي يعلم الظاهر والخفي( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) غافر:19, والذي ينسحب علي الرجال في هذا الأمر ينسحب علي النساء بشكل أعمق لأنهن يفقن الرجال غيرة من بعضهن, ومحافظة علي مظهرهن ومباهاة بجمالهن, وثرائهن وسلطانهن, ولذلك قال تعالي: (ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرا منهن..) وذلك لأن معايير الناس في الحكم علي بعضهم بعضا هي في الغالب معايير مادية محدودة بحدود قدرات كل منهم, وهذه المعايير المادية كثيرا ما تخطيء والله تعالي له موازينه العادلة عدلا مطلقا لأنه تعالي: (لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء) آل عمران:5, وهذا مما يشير إلي أن القيم الظاهرة التي يراها الناس قد لا تكون صادقة في الحكم علي أصحابها, ومن هنا تقرر الآية الكريمة أنه لا تجوز السخرية من فرد من بني آدم مهما يكن مظهره يوحي بذلك, بل وتتحتم المحافظة علي كرامته كإنسان كرمه رب العالمين الذي قال:( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء:70, وهذا التكريم يكون أوجب ما يكون إذا كان الإنسان المقصود مؤمنا بالله مستقيما علي طاعته ومنهجه مهما يكن حاله. وتؤكد الآية الكريمة هذا المعني النبيل بقول ربنا تبارك وتعالي: (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب), و(اللمز) هو العيب في وجه من تريد الإساءة إليه, يقال في اللغة:( لمزه) أي عابه في وجهه, أو أشار إليه بعينه ونحوها من اشارات أو كلام خفي يسيئه, ومن معاني الأمر الإلهي( ولا تلمزوا أنفسكم), أي: لا يجب أن يعيب بعضكم بعضا بقول أو بإشارة سواء كان ذلك علي وجه يضحك أم لا, وسواء كان بحضرته أم لا, وعطف هذا النهي عن اللمز علي ما جاء قبله من نهي عن السخرية يمثل صورة من عطف العام علي الخاص. ومن الأمور التي نهت عنها الآية الكريمة التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها, ويشعرون في المناداة بها بشيء من الإهانة والتحقير, ومن هنا قال تعالي: (ولا تنابزوا بالألقاب) أي لا يدع بعضكم بعضا بما يكره من الألقاب, و(التنابز) هو التعاير (من المعايرة) أي: تذكير الإنسان بعدد من النقائص فيه, سواء كان ذلك حقا أم باطلا, وعلي ذلك فإذا قيل (ولا تنابزوا بالألقاب) فإن معناها: لا تعايروا, ولا يلقب بعضكم بعضا بألقاب كريهة إلي النفس, ومسيئة إلي الذات, ومن أدب المؤمن ألا يستخدم المسيء من الألفاظ التي تنال من كرامة الإنسان, خاصة إذا كان ذلك الإنسان هو اخوه المؤمن. وبعد هذه الأوامر الإلهية للمؤمنين بضرورة البعد كل البعد في تعاملاتهم الشفهية أو المكتوبة عن كل شكل من أشكال السخرية أو اللمز أو التنابز بالألقاب المكروهة أو المسيئة, تختتم الآية الكريمة بقول ربنا تبارك وتعالي: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) أي: بئس الذكر للمؤمن الذي تسول له نفسه الوقوع في واحدة من هذه الأفعال الثلاثة القبيحة أن يذكر بوصف الفسوق بعد اتصافه بالإيمان,) و(الفسوق) هو الخروج علي طريق الحق والصواب, وهو ارتداد عن قواعد الإيمان, والآية تعتبر ذلك ظلما للنفس وتهدد مرتكب السخرية بالغير أو باللمز به, أو التنابز معه بالألقاب بعقاب من الله تعالي علي ظلمه لنفسه إذا لم يتب عن ذلك الإثم ولم يتوقف عن الوقوع فيه. وفي هذا التشريع الإلهي محافظة علي كرامة الإنسان بصفة عامة والإنسان المؤمن بصفة خاصة وصون لمجتمعات المسلمين من أساليب الابتذال التي سادت بين الناس في زمن الفتن الذي نعيشه, وشاعت في مختلف وسائل الإعلام المعاصر التي تدعي لنفسها وجوب عكس الواقع فيما تقدمه للناس مهما كان سيئا ومبتذلا, وإن صح ذلك الزعم في بعض المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاقتصادية, فإنه لا يصح في مجال آداب السلوك والمعاملات التي يجب أن يكون الإعلام فيها موجها وهاديا, وليس مشيعا للفواحش والابتذال من الأقوال والأفعال. وهنا يتضح وجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, وهو ما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم حجة الله البالغة إلي يوم الدين. المزيد من مقالات د. زغلول النجار