مصر مازالت غارقة في أوضاعها الداخلية, وبينما تتصارع كل من تركيا وإيران علي الورقة الكردية ضمن صراعهما علي العراق, وفي ظل الصراع الأكبر في المنطقة, فإن المدهش هو الإحساس الهائل بغياب مصر, والسؤال المؤرق متي تعود مصر إلي دورها؟!, لقد كنت أدرك أن سؤالا كهذا ربما يسمعه المرء في أماكن أخري من العراق, إلا أن السؤال المحمل بمشاعر الود والعتاب تفجر في وجهي في السليمانية؟, والغريب أن يكتشف المرء أن القوة المصرية الناعمة لا تزال حاضرة في المشهد الكردي, فالكثيرون يحدثونك عن أم كلثوم, ويسمعونك صوتها الخالد في الزمن تفيد بإيه ياندم وتعمل إيه ياعذاب!, هذه الكلمات تسللت في الساعات الأخيرة قبل مغادرتي السليمانية, وكأنها تلخص المشهد كله سواء في العراق وكردستان ومصر, فلم تكن الأمور هادئة دوما, بل كانت غالبا لقاءات بليل مظلم, وعذابات علي الطريق, وأوجاعا بالضمير, ومصالح أنظمة قاسية, وشعوب تدفع أثمان القهر والظلم, إلا أن الجراح العميقة والعذابات الممتدة في الزمن لن يجديها الوقوف عند قبور الماضي بل أنفع لها المصارحة والمصالحة, والمضي معا الي المستقبل أملا في علاقات صحية أكثر. ولذا لم يكن غريبا أن يطالب الملا بختيار القيادي البارز بحزب الاتحاد الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني بتفهم سياسي للقضية الكردية, وتجاوز الغبن الثقافي ويبدي عتابا من بعض الآراء السلفية غير المتعمقة, ويقول لقد سبق أن جربنا الحكومات العربية ويئسنا, والآن أتي دور الاقتصاد والثقافة, وأحسب أن الساسة الأكراد أخيرا أدركوا مفتاح التعامل مع العالم, فبدون جسور اقتصادية ممتدة وتعاون, بل ووجود ثقافي فعال, فلا يجب أن يتوقع المرء لا تفاهم ولا تعاطف في غابة المصالح الدولية المعقدة. ولعل الأرقام وحدها كافية, ففي حالة تركيا يصل إجمالي التبادل التجاري مع العراق الي51 مليار دولار(11 مليارا مع كردستان و4 مليارات مع بقية العراق), أما إيران صاحبة الهيمنة فالرقم8 مليارات(2 مليار مع بقية العراق, و6 مليارات مع كردستان), وهنا فإن السؤال الطبيعي: وأين مصر؟!, وأغلب الظن إننا بحاجة لعمل كبير لاستعادة الوضع المصري في العراق وكردستان معا, وهنا لا أقول إن مصر هي قلب الشرق النابض فقط, وهذا صحيح, ولكن لأن الكرد والعراقيين علي حد سواء يريدون مصر, ولا يرغبون في استمرار تأرجحهم ما بين أنقرة وطهران, باختصار يرغبون في توازن الورقة المصرية بقية الأوراق الأخري, ولعل هذا ما قصده د. لطيف رشيد الوزير الكردي السابق بالحكومة العراقية عندما قال لي اهتموا بتعزيز العلاقات مع العراق! وعندما أبديت استغرابي قال إن العراق بلد غني وينتظره مستقبل كبير, ونحن نريد أن نكون جزءا من العراق الديمقراطي الكبير, وأكمل قائلا نريدكم الاهتمام بالعراق وكردستان معا, إذن هناك اتفاق علي مصر, والأهم لدينا رصيد هائل من القوة الناعمة لم يتبدد, قوة تأبي النسيان ممن شكلت مصر وجدانهم وثقافتهم, لم ينسوها, ولم تفارق خيالاتهم أبدا, كيف احتضنت مصر الكرد ولا أول جريدة كردية صدرت علي أرض المحروسة, ولا لماذا تجمع بين ربوعها كل هذه الكوكبة العظيمة وعلي رأسهم أمير الشعراء العرب أحمد شوقي( الكردي), وهذه المشاعر الفياضة لم تكن من السياسيين الذين يجيدون الكلام, ولا من الصحفيين, أو أساتذة الجامعة, بل حتي رجال الأعمال مثل بابكر شاه الذي يعشق مصر الذي قال صراحة نريد مصر أن تحضر بقوة, ونريد نحن أن نتواجد بقوة, وهمس في أذني قائلا لابد من حل لمسألة التأشيرات, وأنا علي ثقة بأن الآلاف سوف يتدفقون علي القاهرة, وكم كان مدهشا أن أعرف من السيدتين دلباك درويش ومهربان سعيد أنهما ترغبان في العودة الي مصر, إحداهما لإكمال الدكتوراه في القانون الدولي, والأخري لشراء منزل في شرم الشيخ مثل بقية العراقيين والكرد من أصحابها, ولايمكن للمرء أن ينسي مشاعر السياسي المتيم بحب مصر عادل مراد سكرتير المجلس المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني, الذي قال لي لا يمكن أن ننسي مصر, تري هل نبدأ نحن رحلة العودة الي دورنا ووضعنا في قلوب العراقيين, وهل نفعلها هذه المرة بأن نسلك الطريق من السليمانية الي أربيل وصولا الي بغداد!, مصر يجب ألا تنسي الأحبة, سواء في الموصل أو الانبار أو النجف أو بغداد, فمصر التي عاشت في قلوب العراقيين لاتزال تتذكر, برغم أنها التقيتهم أحيانا والدنيا ليل, بل ليل ما بعده ليل, وأحسب أن أحدا لن يلومها اذا ما تمنت.. بل تدللت لأنها في النهاية مصر التي تجمع ولا تفرق! لمزيد من مقالات محمد صابرين