تشغل الثقافة القلب من الاهتمام العام, وهي المحور الرئيسي لبناء المجتمعات, حيث تستحوذ علي النصيب الأكبر في نهضة المجتمع وتطوره, ودفع عجلته نحو الرقي في شتي المجالات العلمية والفكرية والأدبية. صحيح أن الثقافة كمفهوم ومصطلح لم تكن ضمن مفردات وشعارات الثورة المصرية التي حملت عيش- حرية- عدالة اجتماعية, إلا أنه من الصحيح أيضا أن المدقق في تلك الشعارات يدرك ان ثمة سريانا ثقافيا في مضمونها, فكيف يمكن تحقيق كل هذه الشعارات والأهداف دون ادراك مخزونها الثقافي, فالحرية كقيمة تحوي أبعادا ثقافية واجبة الترسخ في المجتمع إذا أراد أن يمارس هذا المجتمع الحرية الحقة بضوابطها ومقتضياتها, وهو ما ينطبق بدوره اذا ما نظرنا الي هدف العدالة الاجتماعية وتوفير الاحتياجات الاساسية للمواطنين وتلبية تطلعاتهم. وهو ما اثبته التاريخ المصري القديم, فقد لعبت الثقافة دورا فعالا في بناء المجتمع المصري يدلل علي ذلك تراثه الحضاري وقيمه التي خلدها التاريخ وسجلتها جدران المعابد. ومن هذا المنطلق, يصبح الحديث عن بناء مصر الجديدة ما بعد الثورة دون تأكيد البعد الثقافي لغوا وحديثا مرسلا, حيث تظل الثقافة بمفهومها الشامل وأفرعها المتعددة في مقدمة أولويات صناعة النهضة والتقدم بحكم علاقتها الوثيقة مع كل مشروعات التنمية في مختلف المجالات, فمن غير المتصور تحقيق تنمية حضارية شاملة دون أن تكون الثقافة مكونا أساسيا فيها. وهو ما يستوجب تسجيل ملاحظتين مهمتين: الأولي, أن الثقافة وترسيخ قيمها ليست مسئولية وزارة بعينها أو الدولة بأجهزتها المختلفة وإن كانت هي صاحبة النصيب الأكبر من تحمل المسئولية بحكم ما تملكه من سلطة تستطيع من خلالها تصحيح الأخطاء وتحديد التوجهات. ولكن يظل المجتمع بتكويناته وتشكيلاته الاجتماعية والسياسية المختلفة متحملا نصيبا مهما في بناء النسق الثقافي السائد بقيمه وأخلاقياته ومبادئه. الثاني, من الأهمية بمكان تأكيد دور الثقافة المحلية في بناء منظومة الثقافة الوطنية, فالمجتمع عبارة عن عدة مجتمعات فرعية تتشابك مع بعضها البعض, وكل من هذه المجتمعات لديها قيم ثقافية فرعية تشكل في مجموعها قيم المجتمع ومبادئه. ومن هنا يبرز دور قصور وبيوت الثقافة المنتشرة في محافظات مصر في رفع المستوي الثقافي وتوجيه الوعي المجتمعي. لكن المشاهد علي أرض الواقع أن ثمة فجوة واسعة بين ما تقوم به هذه المنشآت في الوقت الراهن وما يجب ان يكون عليه دورها, فتحركاتها ونشاطاتها ما زالت دون المستوي المطلوب للقيام بتلك المهمة في بناء مصر الجديدة, وهو ما يستوجب إفراد حديث خاص عن دور الهيئة العامة لقصور الثقافة والمؤسسات التابعة لها وإستراتيجيتها فيما بعد الثورة في بناء المجتمع المصري, علي الرغم من تاريخها الطويل الذي يزيد علي نصف قرن ولكن ما زال دورها يحتاج الي رؤية جديدة تنطلق من تقييم خبرات الماضي وقراءة متغيرات الحاضر ورسم خطط المستقبل. جملة القول, أن الوصول إلي تحقيق شعار الثقافة للجميع الذي يعني تزويد كل مواطن بالقدر الثقافي الكافي ليصبح قادرا علي ادراك شئون مجتمعه والتفكير في مشكلاته وحلوله بل يصبح أكثر قابلية لتنفيذ مهامه وأداء واجبه في المجالات كافة سياسيا أو اقتصاديا أو اعلاميا... الخ, فهذا هو الهدف المأمول الذي يجب أن تنطلق منه استراتيجية العمل الوطني لبناء المستقبل. لمزيد من مقالات عماد المهدى