يتوجه عم عيسي كل صباح إلي ربه يصلي ركعتين, ثم يغادر مسكنه الصغير بعزبة التيرو إلي شركة الاسكندرية لتصنيع الورق. يجلس علي مقعده الخشبي العجوز ليعد يوميات حضور العمال وغيابهم, تتدلي من فمه سيجارة هي في معظم الأحيان منطفئة. يرتشف الشاي الثقيل ويتلذذ بمصمصة شفتيه بين الرشفة والأخري, ويقول: اصطبحنا وأصبح الملك لله.. عفوك ورضاك يا كريم. إيمانه بربه يخضع لاعتبارات عديدة يتسم معظمها بالغموض. الغيب عنده قدس مقدس, أما التأمل فعبادة. عشرون عاملا بالعنبر. كلهم من ذوي العاهات وخريجي معاهد التأهيل المهني, منهم أيضا مجموعة من العميان يطلقون عليهم في المصنع لقب المشايخ يقتصر عملهم علي تحزيم الأكياس وربطها بالدوبارة. قبل السابعة بقليل تصل أم عادل, مصطحبة في يمناها ولدها عادل. نصف مشلول. يسح من أنفه وفمه سائل لاينقطع مدده طول النهار. علي فمه ترقد ابتسامة بلهاء يداخلها شيء من الخوف. تسلمه أمه إلي عيسي وتذهب مسرعة إلي عملها في العزبة. عند انتهاء العمل لاتحضر لأخذه, وإنما تتركه لأي مصادفة قد تجمع بينه وبين عامل يلقاه متوقفا في عرض الطريق.. أما في أول الشهر فلابد أن تحضر لتتسلم راتبه حيث يبصم عادل بإبهامه في سعادة بالغة علي كشف الرواتب. يجلس عادل أمام مائدة لصق الأكياس. بصعوبة معتادة يتمكن عم عيسي من اخراج يد عادل اليمني من جيب سرواله المثقوب. ما أن ينجح عيسي في ذلك حتي يبدأ عادل في صف الأكياس بطريقة خاصة ثم يقوم بلصق قواعدها بفرشة مغراة. يتركه عيسي ويتفرغ للتأمل باهتمام في وجه جمال عوض الله ومراقبة تحركاته بينما يتمتم في اقتناع: حكمتك يارب يتوالي بعد ذلك وصول العمال ثم المشايخ في مجموعة مصطفة يقودها مبصر. أما خديجة فهي دائما آخر من يصل من العاملين بعنبر الأكياس الخاضع لرئاسة الاسطي عيسي محمد نجم ذي الخمسين عاما. يبتسم عادل حين تجلس خديجة بجانبه, وكذلك يفعل جمال عوض الله الذي يجلس عن يسارها. خديجة سمراء البشرة, خفيفة الظل مخروطة الساقين مبرومة القوام ناعسة العينين, يطلقون عليها اسم السمرة. يتعمد عيسي بحكم خبرته أن يجلس بين عادل وجمال حتي يحفظ التوازن النفسي والأمني لمائدة اللصق. تتسم عاهة جمال بشيء من الخطورة لأنها تكمن في عقله, فهو يعمل أحيانا بحماس شديد ساعات سبع دون أن ينطق كلمة واحدة, وأحيانا يمتنع إطلاقا عن العمل حيث لا يمكن لأحد أن يقنعه بالعدول عن قراره, في أحيان قليلة تنجح خديجة في ذلك. يستيقظ جمال من نومه ان نام مابين الثانية والثالثة من صباح كل يوم. يغادر فراشه الذي ينام عليه أولاده الثلاثة وزوجته. يدور علي المساكن الشعبية المحيطة ساحتها ببدروم سكنه الأرضي العتيق. يصيح بأعلي صوته: الصلاة يا مؤمنين الصلاة أحيانا يتجرأ فيطرق بقبضته الخشنة نوافذ مساكنهم الأرضية ولايعبأ بالشتائم واللعنات التي يتلقاها منهم. أحيانا يصل إلي العنبر بوجه مملوء بالكدمات وآثار الدماء, لكنه يبتسم دائما ابتسامة تنم عن شعور عظيم بالانتصار. يسأله عيسي: أتحب الأطفال يا جمال أم تحب أمهم أكثر؟ بالعكس أنا أفكر في تطليقها لماذا؟ لأنها باعت الكنبة دون إذن مني يوم أن منعت عنها مصروف البيت لأنها تعصاني وتمتنع عني الطيب أحسن يا جمال.. أتحب أن أصلح بينكما؟ يهب جمال صائحا في عنف: أبدا.. أنا لا يمكن أن أسمح لرجل مهما كان بدخول بيتي أنت حر يا جمال.. رح إلي مائدتك هات سيجارة أولا اجتمع المشايخ وقرروا ترشيح الجريشي لعضوية مجلس إدارة الشركة. الجريشي يبصر بنصف عين ويعشق القراءة. قالوا انه سوف يصبح عظيما يوما ما أكد لهم بنبرة الواثق من الفوز أنه لو تحقق له النجاح في الانتخابات فلن يتنكر لهم, بل سيقدم لهم العون وسيرقيهم جميعا بلا استثناء قبل النظر في ترقيات المبصرين. أبدي بعضهم تشككا في ذلك, وتحفظ البعض الآخر في إبداء رأيه, ورغم ذلك فقد سمعه أحدهم يؤكد لمرافقيه بثقة شديدة أنه سيفوز بأغلبية كاسحة. حصل الجريشي علي ستة أصوات من المصنع بأكمله بينما يبلغ عدد المشايخ بالعنبر سبعة!! صار الجريشي ناقما علي الدنيا بعد أن خاب أمله. هدد عم عيسي بضربه بحديدة علي رأسه لأنه لم يمنحه صوته. تدخل جمال وفض بينهما التشابك. صاح فيه عيسي: لا شأن لك بمشكلات العمال. تفرغ لعملك علي سكينة قطع الورق فقط ومن غيري يدافع عن حقوقهم الضائعة؟ أنا كفيل بذلك فهذه مسئوليتي هه؟!! كيف تستطيع ذلك وأنت عاجز عن الدفاع عن حقك؟ لا شأن لك بي.. انصرف إلي عملك كل الأسطوات رقوا إلي الدرجة الثامنة وأنت مازلت علي العاشرة منذ سنوات طويلة زمجرت عاصفة مدوية من الغضب في نفس عيسي نجم. ألب عليه هذا المعتوه همومه. أيقظ مشاعره النائمة علي الظلم. جعله يحس بضعفه وضآلته أمام مديره المستبد. تذكر حوارا دار بينهما منذ سنوات حين قال له المدير بعد تمهيد خبيث: أريد خديجة أستغفر الله يا سعادة البيه لا تتصنع الوقار فمثلك لا يرد علي جنة يا سعادة البيه... أنا.. لا تضيع وقتي وحاول أن ترضي مديرك فتكون الرابح ياسيدي انها ليست.. من.. مقامك لا شأن لك بهذا إن رائحتها عرق وغراء هذا لا يعنيني في شيء إن أجمل نساء المصنع تتمني إشارة من سعادتك... هذه جربوعة من الواضح أنك رجل غبي... ابعث بها حالا إلي مكتبي حاضر اسمع.. لا ترني وجهك القبيح هذا مرة أخري.. فاهم؟ فاهم يا سعادة البيه *** أجريت حركتان للترقيات ولم يرق عيسي نجم.. شعر بمرارة الظلم والاضطهاد وتحدي في قرارة نفسه أن يجد ذلك الجبان مباشرا غيره بالمصنع يقبل أن يشرف لسنوات عشر علي تشغيل مجموعة من المعتوهين وذوي العاهات لينجز بهم عملا عظيما مثله, أو يرتضي أن يتعرض لمخاطرهم ويتحمل تقلباتهم ويحل مشكلاتهم التي لا تنتهي... تساءل: أهكذا يكون جزائي لأنني رفضت أن أعمل له قوادا؟ أشعل سيجارة وصب نظره علي خديجه السمرة, هام في أطياف الماضي فاختلطت بذهنه رؤي الغيب ودهمه شك محير, أنه لم يبلغ خديجة حتي اليوم برسالة المدير, تري أتم كل شيء بينهما في الخفاء دون اللجوء اليه, بينما لم يصبه من جراء شهامته سوي ضياع الترقية؟... خديجة بنت طيبة وغلبانة لكن لم لا يشك؟... ألم يشع بالمصنع نبأ علاقتها بأحد المشايخ؟.. ألم يقولوا إنها حين حصلت علي إجازة لمدة شهر فإنها أمضته عند احدي قريباتها حتي يتم الاجهاض؟.. تتبني قضايا عمالك التعساء فتدفع الظلم عنهم وتحول بينهم, وبين من يحاول أن يمسهم من العنابر الأخري بسوء أو بسخرية؟ ثم لا تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسك أتجرؤ أن تسألها يا عيسي؟.. فماذا تفعل لو وشت بك إليه؟ ثم لو سألتها فكيف يكون شكل السؤال أو مدخله؟ هل قابلت سعادة المدير؟ سؤال ساذج يمكن الاجابة عنه بما لا يفصح عن سر ولا يشفي غلة أتذكرين في العام الماضي حين.. حين ماذا يا..؟ أنك لم تبلغها الرسالة حتي هذه اللحظة ما رأيك في سعادة البيه المدير؟. رأيها؟... رأيها هو رأي أي عامل أو عاملة بالمصنع... أنه البك الكبير الجالس إلي مكتبه الضخم في الغرفة المكيفة, الذي ينبغي علي من يود مقابلته أن ينتظر أولا عند سكرتيرته الحسناء, أخفت سحابات الدخان وجهه, وقد لمح شيئا عجيبا: عماله قد أصابهم مس من التعقل المفاجيء.. يتبادلون نظرات سريعة خادة حذرة.. عيونهم متجهة نحو الباب الواقع خلف مجلسه باهتمام يهمهمون... العقلاء منهم نسبيا يقفون فجأة... يومك أسود يا عيسي يا بن نجم... ما الذي جاء به إلي هذا المكان المنكر من المصنع, والذي لم يزره مدير من قبل؟! كيف حالك يا عيسي. انتفض مذهولا.. ألقي بالسيجارة علي الأرض دون أن يشعر.. جاء الجبان يبحث لي عن أذي جديد. أتدخن في العنبر يا عيسي؟ شل لسانه عن الحركة اصفر وجهه واسود وازرق. ألا تعرف يا عيسي أن التدخين في العنبر عقوبته الفصل بدون مكافأة؟! .... عليك بالحضور إلي مكتبي يا... بعد أن أنهي جولتي بالمصنع أخذ يمر بين موائد تصنيع الأكياس وعيسي يهرول من خلفه في ذعر... أبدي بعض الملاحظات التافهة نظر بتعجب إلي عادل الذي لحس بلسانه ما تساقط من أنفه وابتسم, غادر جمال مقعده. فجأة وابتسامة الظفر تعلو شفتيه, دفع المدير بيده في لامبالاة تلقائية ومرق إلي خارج العنبر, وقد ألجمت الدهشة ألسنة الجميع. قال عيسي: لا مؤاخذة يا سعادة البيه أصله مجنون توقع عيسي رد فعل حادا من جانب المدير, فوجئ به يتجه في ثبات إلي حيث تجلس السمرة ثم أشار إليها متسائلا: ما اسم هذه العاملة يا عيسي؟ غمغم عيسي في ضميره: ألا تعرف أسمها يا بن ال...؟! انتفضت السمرة في ذعر قائلة: خدامتك خديجه بيومي يا بيه آه.. لم يحدث شيء أذن, واضح أنها المرة الأولي التي تخاطبه فيها, لأنه لو كان شيء بينهما قد حدث لبانت علي وجهها أي إمارة, لكنها في حالة يرثي لها من الرعب, أن سعادة البيه المدير بحاله يخاطبها من دون الجميع... حسنا يا عيسي.. الفريسة لم تسقط بعد. أنت تعملين بمهارة عظيمة يا خديجه ربنا يخليك يا سيدي قال لعيسي بسرعة البرق: قدم لي مذكرة عن هذه العاملة حتي أمنحها مكافأة يا بن ال..!! توزع أموالنا علي نزواتك, وتريد أن تفصلني لأنني أنفث دخان همومي منك في الهواء. ابتسمت خديجة ملء شفتيها بينما اندفع جريشي كسهم طائش. نريد الدرجة يا يبه قل هذا الكلام لرئيسك يا ولد قلناه لطوب الأرض ولم يسأل عنا أحد قال المدير لعيسي: هذا الولد قليل الأدب اخصم يومين من راتبه. علي باب العنبر اصطدم المدير بجمال في طريق عودته استوقفه جمال صائحا في وجهه. الصلاة يا مؤمنين الصلاة دفعه عيسي في صدره ليبعده عن طريق المدير وينتهز الفرصة ليتوسل اليه, فيصفح عنه, ولا يفصله, لكنه تراجع حين لمح علي وجهه علامات معينة توحي بشيء من التسامح, وإن كان غير منزه عن الغرض... رمقه المدير بنظرة تعج بالمعاني الصريحة غير المستترة.. ها هي الفرصة تلوح أمامك من جديد.. الدرجة يا عيسي.. الدرجة قبل أن تصبح اضحوكة المشايخ والمعتوهين, دعه لخالقه يحاسبه كيف يشاء لكنك ستكون شريكا في الذنب. لا بأس عليك بالاستغفار والاستزادة من الصلاة, وطلب الرحمة, أهكذا تتراجع وتسقط ياعيسي في ثوان؟!... أين خوفك من الله؟.. لا تسأل نفسك كثيرا فلقد مللت انتظار الأجوبة.. **** تناثر اللغط في أرجاء العنبر, اجتمع المشايخ في ركنهم يتهامسون حول نبأ ذهاب خديجه إلي مكتب البيه المدير بناء علي طلبه, قال كبيرهم: الحكاية أكبر من المكافأة التشجيعية وعلق الآخرون: صدقت.. فعينه زائغة وتندب فيها رصاصة وكيف عرفت ذلك وقد ولدت ولا مؤاخذة أعمي؟