جيش مصر قادر    بالأسماء.. ننشر نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظة الوادي الجديد    حلم «عبدالناصر» الذى حققه «السيسى»    كوادر فنية مُدربة لسوق العمل    «الجيزة» تطلق مراجعات مجانية لطلاب الثانوية العامة.. تبدأ اليوم    «التعليم» تحقق في مزاعم تداول امتحانات الدبلومات الفنية 2024    «حياة كريمة» تطلق قوافل طبية مجانية اليوم في محافظتين.. اعرف الأماكن    تحقيقات النيابة: سفاح التجمع الخامس قتل أول سيدة العام الماضى    الحكومة توضح موعد وقف خطة تخفيف الأحمال نهائيًا    صادرات الملابس الجاهزة ترتفع 23% أول 4 شهر من 2024    تداول 60 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    رئيس جهاز 6 أكتوبر يتابع سير العمل بمحطة مياه الشرب وتوسعاتها    مصر للطيران تسير اليوم أولى رحلات الجسر الجوى لنقل حجاج بيت الله الحرام    أستاذ اقتصاد: هناك طفرة اقتصادية في العلاقات بين مصر والصين في عهد السيسي    متحدث الرئاسة: قمة مصرية صينية ببكين اليوم    الجيش الإسرائيلي: مقتل 3 جنود وإصابة 10 في معارك رفح    الخارجية: مصر تلعب دورًا فاعلًا في عمليات حفظ السلام    كريم فؤاد: موسيماني جعلني أمر بفترة سيئة.. ومستوى إمام عاشور بعيد عن أي لاعب آخر    رودريجو يرد على تكهنات رحيله عن ريال مدريد في الصيف    برشلونة يحسم موقفه من بيع رباعي الفريق    شوبير يكشف حقيقة تفاوض الأهلي مع بغداد بونجاح لتدعيم هجومه في الصيف    ماجواير يستعد لمحادثات حاسمة مع مانشستر يونايتد    رئيس جامعة حلوان يتفقد كلية التربية الرياضية بالهرم    لجنة القيد تحت التمرين.. بداية مشوار النجومية في عالم الصحافة    إدعى إصدار شهادات مُعتمدة.. «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا في الإسكندرية    الأرصاد تحذر المواطنين.. تغيرات في الحرارة تؤثر على الطقس حتى نهاية الأسبوع    اليوم.. انطلاق أول أفواج حج الجمعيات الأهلية    فرقة aespa ترد على رسائل شركة HYPE للتخلص منها    مصطفى كامل يهنئ الدكتور رضا بدير لحصوله على جائزة الدولة التقديرية    وزيرة الهجرة تستقبل أحد أبناء الجالية المصرية في كندا    «السبكي» يستقبل رئيس «صحة النواب» في زيارة تفقدية لمستشفى شرم الشيخ الدولي    جامعة القاهرة: قرار بتعيين وكيل جديد لطب القاهرة والتأكيد على ضرورة زيادة القوافل الطبية    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى العمرانية دون إصابات    توريد 223 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    توضيح حكومي بشأن تحويل الدعم السلعي إلى نقدي    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 29 مايو 2024: تحذير ل«الأسد» ومكاسب ل«الجدي»    بعد ترميمه.. "الأعلى للآثار" يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بالدرب الأحمر    وفد جمهورية مصر العربية يُشارك في الاجتماعات السنوية لمجموعة بنك التنمية الإفريقي لعام 2024 بكينيا    بعد مجزرة المخيم.. بايدن: عملية إسرائيل في رفح الفلسطينية لم تتخط الخطوط الحمراء    بدء التصويت فى الانتخابات التشريعية بجنوب أفريقيا    وزارة الصحة تكشف المضاعفات الخطرة للولادات القيصرية غير المبررة.. انفوجراف    لهذا السبب.. مي نور الشريف تتصدر تريند "جوجل" في السعودية    3 دول أوروبية تعترف رسميا بدولة فلسطين.. ماذا قال الاحتلال الإسرائيلي؟    أفضل دعاء الرزق وقضاء الديون.. اللهم ارزقني حلالًا طيبًا    الخارجية الروسية تعلق على تصريح رئيس الدبلوماسية الأوروبية حول شرعية ضرب أراضيها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29-5-2024    محمد فاضل بعد حصوله على جائزة النيل: «أشعر بالفخر وشكرًا لوزارة الثقافة»    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    «شمتانين فيه عشان مش بيلعب في الأهلي أو الزمالك»..أحمد عيد تعليقا على أزمة رمضان صبحي    بلاتر: كل دول العالم كانت سعيدة بتواجدي في رئاسة فيفا    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    حسين حمودة: سعيد بالفوز بجائزة الدولة التقديرية في الأدب لاتسامها بالنزاهة    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    اليوم.. محاكمة المضيفة المتهمة بقتل ابنتها في التجمع الخامس    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في دنيا الله
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 12 - 2011

بقلم‏:‏ صلاح عبد الصبور : ما أكثر الذين يحبون نجيب محفوظ‏,‏ ويكلفون بأدبه‏,‏ والكثرة الكاثرة منهم تحب نجيب محفوظ الروائي‏,‏ ولعلها فوجئت به كاتب أقصوصة‏,‏ حين عاد إلي هذا اللون التعبيري, بعد انقطاع عنه طويل, منذ ظهرت مجموعته الأولي همس الجنون, وقد تلقت الحياة الأدبية عندئذ هذا النتاج الجديد للكاتب المرموق متحفزة, وحين نشرت القصة الأولي كانت مدار النقاش بين أصحابي وبيني, وأظنها كانت مدار النقاش في كل بيئة أدبية ذلك اليوم, ثم توالت أقاصيص نجيب محفوظ, وبدا له أن يجمعها في كتاب, فكان هذا الكتاب الجديد, وهو الكتاب السادس عشر, للكاتب الذي جاوز الخمسين بأشهر, وهو دليل حياة خصبة منتجة, تنشر الخير في أرجاء حياتنا الأدبية, بشتي ألوانه ومختلف نفحاته.
والحياة الأدبية مازالت تتوقف عن إصدار كلمتها في القصة القصيرة عند نجيب محفوظ, ولعل مرجع هذا التوقف هو أن الكلمة الأخيرة لم تقل بعد في تحديد معني القصة القصيرة, فمما لا شك فيه أنها تختلف اختلافا بينا, بين موباسان وتشيكوف, وهما أعظم أعلامها, وبين بعض الكتاب المحدثين مثل همنجواي ووليم مارديان ووليم فوكنر وسومرست موم وسارتر وغيرهم.
فالبعض يري أن الأقصوصة فن قصير النفس, يجب ألا تمتد إلي عشرات الصفحات, وإلا أصبحت رواية قصيرة. ولعل هؤلاء لا يدركون أن كثيرا من قصص تشيكوف قد امتدت لتشمل عشرات الصفحات, مثل قصة عنبر رقم6 وقصة الجرادة وغيرهما, كما أن بعض قصص موباسان القصيرة أيضا قد تطول, ولكن ليس إلي هذا الحد.
هذا بينما نجد أقاصيص همنجواي لا تكاد تتعدي صفحات إحداها أصابع اليد الواحدة, ونجد المجموعة الأولي لوليم سارويان( الشبان الشجعان علي الأرجوحة الطائرة) وهي من ألمع مجموعاته, وقد احتوت في صفحاتها المائتين خمسا وعشرين قصة, ونجد كاتبا أمريكيا محترما مثل( جون أوهارا) يكتب الأقصوصة في صفحة ونصف صفحة, وتزدحم الصحف الآن بالأقاصيص التي تقرؤها في خمس دقائق, والتي كثيرا ما تحمل أبوابها هذا الشعار كنوع من التحلية والترغيب. والذين يصرون علي أن القصة القصيرة يجب أن تكون قصيرة النفس لا يفجؤهم قط أن تحتج عليهم بأقاصيص تشيكوف وموباسان الطويلة, ولا بمثيلاتها مثل( المعطف) لجوجول أو( الموتي) لجيمس جويس, فيزعمون لك أن هذه الأعمال الأدبية ليست أقاصيص, بل هي روايات قصيرة, أو هي بمنزلة بين المنزلتين, وهم لا يجرؤون علي تسميتها( رواية) فحسب, بعد أن حددت روايات القرن التاسع عشر مدلول الرواية, حين كتب تولستوي( الحرب والسلام) واسعة كالسهوب الروسية مليئة بالأشخاص والأحداث عميقة بالتاريخ, وكتب دستويفسكي( كارامازوف) و(الأبله) وكتب ديكنز وبلزاك مطولاتهما, وأتبعهما( بروست) في القرن العشرين بمطولته العظيمة وجيمس جويس بمطولته المحيرة.
مسألة الحجم إذن لا تلقي تحديدا للقصة القصيرة, فلنبحث عن تحديد آخر. بعض النقاد يقولون إن القصة القصيرة هي التي تلقي اهتمامها أساسا إلي شخصية واحدة أو حدث واحد, فهي تتناول قطاعا عرضيا من الحياة, لا قطاعا طوليا, كما تصنع الرواية, وإذا كانت الرواية أقرب التحديدات إلي الصحة, وإن لم يكن صحيحا صحة مطلقة. فإن مطولة دستويفسكي( الأبله) لا تتناول أساسا إلا شخصية واحدة هي شخصية الأمير ميشكين, ولا تعرض للآخرين إلا من خلاله. إذن لا بد من الشرط الثاني وهو تحقق القطاع العرضي, والتقاط الموقف المكثف الغني, الخصب بالدلالات. وثمة فارق آخر بين الرواية والقصة القصيرة ينبع تلقائيا من هذا التحديد, وهو فارق( الإيقاع), والإيقاع قد نستطيع أن نسن له القوانين في الموسيقي والشعر والرسم, ولكن من العسير أن نسن له قانونا في النثر, بل هو عندئذ يدرك بالإحساس والذوق. وإيقاع القصة القصيرة أسرع من إيقاع الرواية, فالموقف الروائي له إيقاعه الهادئ المتمهل, بينما يتميز الموقف( الأقصوصي) بالسرعة, ونثر اللمسة الدالة والكلمة الموحية. ولعل هذا التخير في اللفظ, والانتباه للأداء, حتي يتحقق الإيقاع السريع, هو ما جعل كثيرين من النقاد يعقدون المقارنات بين القصة القصيرة والقصيدة الشعرية, فكلاهما يقوم اللفظ فيه بدوره الكامل, وتصبح كل كلمة زائدة عبئا علي الفن ثقيلا. ونحن كقراء قد صنعنا أذواقنا في تلقي القصة القصيرة ومهمتها من خلال الكتاب, ولعل أول صانع لذوقنا في تلقي القصة القصيرة كان هو الكاتب الرائد محمود تيمور, ومحمود تيمور تلميذ مخلص لموباسان, والتلميذ يتلقي عن أستاذه محاسنه ومعايبه, وقد تلقي تيمور عن موباسان أن ينهي القصة بمفاجأة تكون هي بمثابة( لحظة التنوير)التي تحدث عنها النقاد الكلاسيكيون وزاد فيها وأعاد مدرسو الأدب بالمراسلة. ومعظمنا لا شك يذكر قصة( القلادة) لموباسان, وكيف انتهت بهذه المفاجأة( يالله يا عزيزتي.. لقد كانت القلادة من المعدن, وقد أنفقت سنوات من حياتك في سبيل لا شيء). وتلك النهاية هي الأسلوب المحبب لموباسان ولتلامذته في الشرق والغرب من محمود تيمور إلي سومرست موم, وحين قرأ بعض كتابنا الأدب الفرنسي المتمارض فتنوا به, وولدت قصص محمود كامل المحامي, ولكنها لم تكد تستقر, لأن أثر تشيكوف العظيم اكتسح كل ما عداه.
بدأ أثر تشيكوف العظيم في يوسف إدريس, وليوسف إدريس ولع بتطويع اللغة وقهرها, وله أسلوبه الخاص الذي يحاول فيه أن يصبغ بالعامية لغة القصة, ولكن يوسف إدريس فنان قادر, وليس كل مقلديه في مثل قدرته, ولذلك فقد شاعت الركاكة اللغوية إلي حد منفر بين كتاب القصة القصيرة, وكادت هذه الركاكة أن تصبح أسلوبا معترفا به.
ولعل أسلوب نجيب محفوظ الفصيح فض عن ذلك الاختلاط في مفهوم القصة القصيرة, الذي أوضحته من قبل كانا هما أهم سببين لتوقف الحياة الأدبية عن إصدار كلمتها في أقاصيص نجيب محفوظ.
إن تطور نجيب محفوظ من متابعة الأحداث إلي متابعة الأشخاص هو سبب عودته إلي القصة القصيرة, وفي حديث أخير لنجيب محفوظ مع غالي شكري, نشر في مجلة( حوار) قال نجيب محفوظ إنه لم يعد يشغل بظواهر الوجود بقدر ما هو مشغول بالوجود ذاته. وقد كان نجيب محفوظ في رواياته:( القاهرة الجديدة, خان الخليلي, زقاق المدق, الثلاثية, السراب, بداية ونهاية) بعيدا بعدا بينا عن مشكلة الوجود المجرد, كان الذي يعنيه في هذه الروايات هو( الوجود في زمن) وكان عندئذ يتتبع أشخاصه العديدين, والثلاثية بالمناسبة ليس فيها بطل, وكذلك زقاق المدق وخان الخليلي وبداية ونهاية إلي حد بعيد. وتتبع الوجود في زمن يعني دراسة أحوال الشخصيات وتطوراتها ومصائرها, ولكنه لا يعني دراسة سبب وجودها المجرد أو سبب موتها المجرد. وقد قال لي نجيب محفوظ ذات مرة منذ سنوات, وبعد الثلاثية بالتحديد, إنه لم يعد يعرف كيف سيكتب, بعد أن تغيرت صورة الحياة الاجتماعية, فلقد تحدث نجيب عن الطبقة الوسطي القاهرية ما وسعه الحديث, ومجدها وبكاها حين ارتفعت وانخفضت, ودرس ارتباطاتها السياسية وبناءها النفسي وسلوكها الأخلاقي, ووصف طموحها العظيم وفضائلها العظيمة وخستها العظيمة أيضا, والآن, حين لم يعد للطبقة الوسطي هذا الأثر الضخم في المجتمع, أحس نجيب بالحيرة.
وإننا نري.. نضج نجيب حين وجد نفسه مشغولا بالتفكير في الوجود ذاته, وهو قمة نضج كل فنان عظيم, حين يجد نفسه يفكر في الجوهر وراء الظواهر والعلة وراء المعلولات, وإحساسه أنه قد انتهي من استقطار الطبقة الوسطي وتسجيل أبعادها, هذان العاملان هما اللذان دفعاه للعودة إلي القصة القصيرة. وهنا يضطر نجيب محفوظ إلي استخدام أدوات لم يستخدمها من قبل في رواياته, يضطر إلي استخدام الرمز والتجريد, واللامعقول في بعض الأحيان. ومن هنا كانت المشكلة التي شغلت نجيب محفوظ في معظم قصصه القصيرة التي نشرت في هذه المجموعة, هي مشكلة( الموت), وتبعتها مشكلة أخري هي مشكلة) الإيمان. ومن البديهي عندئذ أن نجيب محفوظ قد عاد إلي القصة القصيرة بعد أن استوي له أسلوب في السرد والحوار الأدبي, وفي تناول الشخصيات, ومن هنا فإن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ لا أستاذ لها إلا نجيب نفسه.
الموت..
يخطئ الذين يظنون أن التفكير في الموت لون من الميتافيزيقا, فإن الموت هو أكثر الأشياء( واقعية) في حياة الإنسان, وتوأم الموت هو المفاجأة. وفي رواية بداية ونهاية ترتفع الستار عن موت الأب, وتسدل علي موت الفتاة, والموت في الثلاثية زائر دؤوب.
ولكن كل هذا الموت عند نجيب كان موتا مسج بحياد, يستجيب له الكاتب كجزء من الأحداث أو خيط من النسيج الروائي, ولكن ماذا يكون موقف الكاتب منه لو استله من نسيجه الروائي, ونظر إليه كموت مستقل, موت في ذاته.
في مجموعة( دنيا الله) أربع عشرة قصة, منها سبع قصص تتحدث عن الموت, قصة( جوار الله) تتحدث عن سيدة عجوز,
تموت ويقتسم ورثتها ميراثها ويتنازعونه قبل أن تسلم الروح, وقصة( الجامع في الدرب) تتحدث عن نجاة البغايا حين احتمين بالجامع, وموت شيخ الجامع, وقصة( توعد) تتحدث عن نجاة الأخ المريض وموت الأخ الصحيح البدن, وقصة( قاتل) تتحدث عن جريمة قتل يدفع إليها متشرد مأجور, فيقتل رجلا يعرفه ولم تسبق له معاملته, بكل قوة وجارحة, وقصة( ضد مجهول) وسنعود إليها بعد قليل, تتحدث عن موتي كثيرين يموتون دون أن يدري أحد من قاتلهم ولماذا قتلهم, وفي آخر الأمر يموت ضابط المباحث الكفء الذي يبحث عن المجرم المجهول بنفس الميتة. وقصة( الجبار) ينجو فيها القاتل ويعترف البريء, وقصة( حادثة) يموت فيها مجهول في طريق, وهو في أوج سعادته. ولنعد الآن إلي قصة( ضد مجهول), ولعلي لا أفسدها بالاختصار. في حي العباسية, وقف ضابط المباحث الكفء المشهود له بالمهارة والمقدرة, أمام الجريمة يحاول أن يتلمس خيطا يقوده إلي المجرم فلم يستطع, فلا أثر هناك لمقاومة, كأن القتيل قد استسلم لقاتله, قاتل( كأنه نسمة هواء لطيفة أو شعاع من الشمس), وهو لم يسرق شيئا, ولم يمد يده إلي حافظة نقود, بل لقد اكتفي بأن يأخذ الروح ويمضي بها. والقتيل مدرس بالمعاش, ولا أعداء له, وشعر الضابط بالهزيمة, فأغرقها في قراءة الشعر الصوفي الذي يكلف به, وقيدت الجريمة( ضد مجهول). وبعد شهر قتل لواء قديم من رجال الجيش بنفس الطريقة, ومضت الاجراءات بلا فائدة, فالجريمة موجودة بلا شك بدليل وجود جثة الضحية, ولكن كأنها ترتكب بلا مجرم, بل لعل المجرم موجود, ولعله أقرب إلينا مما نتصور. واهتز الرأي العام ثم يهتز وبخاصة بعد أن وقعت الجريمة الثالثة, وكان ضحيتها شابة في الثلاثين, كانت مريضة بالتيفود منذ عشرة أيام, وتوقع لها ذووها الموت بالمرض, ولكن المجرم المجهول كان أقرب إليها من المرض.
ثم عثر الجنود بعدها بشهر علي جثة متسول عريان, وقد قتلت بنفس الطريقة, ثم سقط جسم من ترام بعدها بأيام, وتبين أنه مقتول بنفس الطريقة, وضج الناس وهاجوا, وأحس ضابط المباحث بالهزيمة المرة تجاه ذلك المجرم الذي يقتل ولا يترك وراءه أثرا) كان يتجول في الحي كالمجنون, يتفقد الشرطة والمخبرين, ويتفحص الوجوه والأماكن, ويمضي في يأس تام, ويناجي يأسه طويلا, وهزيمته المرة, ويود لو يقدم عنقه إلي المجرم شرط أن يعفي الناس من حبله الجهنمي. وزار مستشفي الولادة حيث ترقد زوجته, جلس إلي جانب فراشها قليلا وهو يرنو إليها وإلي الوليد, مفتر الثغر عن ابتسامة, ابتسامة لأول مرة منذ عهد غير قصير, ثم لثم جبينها وذهب, عاد إلي الدنيا التي يود ألا يراه فيها أحد, ووجد ما يشبه الدوار, الحياة التي يقضي عليها حبل مجهول فتصبح لا شيء لكنها شيء بلا ريب وشيء مثير. الحب والشعر والوليد, الآمال التي لا حد لجمالها. أهناك خطأ يجب أن يصلح ومتي يصلح؟ وتقرر نقل الضابط من القسم إلي الأرياف جزاء له علي فشله, ولكن المأمور يدخل علي مكتبه, فيجده مقتو بنفس الطريقة.. حتي عدو الموت مات بنفس الطريقة.
ويأمر المأمور بكتمان الخبر عن الصحف, فإن الخبر إذا اختفي من الصحف, ولم يعد الناس يتحدثون عنه, فكأنه اختفي من الدنيا. إن سر الرهبة هو أن الناس تتحدث كثيرا, ويعد المأمور رجاله ونفسه أنهم جميعا لن يكفوا عن البحث. هذه القصة هي مفتاح نظرة نجيب إلي الموت, فمن البديهي أن القتل في هذه القصة قتل تجريدي, وأن هذا القاتل يدخل من باب, ولا يقفز من شباك, ولا يمد يدا إلي ضحية, ولكنه( الموت) العادي الذي نصادفه كل لحظة, والذي نحمله في دمائنا وأعصابنا كل وقت, وهو أقرب إلينا مما نتصور, وكلنا لا نحس به إلا عندما نواجهه أو نتكلم عنه وليست حكاية الحبل والخنق التي يسوقها المؤلف إلا نوعا من الإيهام بالواقعية, يلجأ إليه الكاتب لإحكام الرمز وتقويته. فالكاتب إذن لا يريدنا أن نجهد عقولنا في البحث وراء قاتل, ولكنه يريد أن يقول لنا إن الموت, حتي الموت في الفراش, أو موت المفاجأة في الترام أو السكتة القلبية التي تصيب موظفا في مكتبه إثر خيبة مريرة أو فشل كبير, كل هذه الألوان من الموت, هي في الواقع قتل.
من القاتل: إن القاتل هو نفسه الذي يهب المولود للمرأة الحامل, إنه القدر, ولو تجردنا من منطق الحياة, ومن التسليم الأبله الذي تعودنا الحياة عليه, وتلقيه في نفوسنا لأدركنا بشاعة هذا الموت القدري, الذي تقيد فيه الواقعة في دفتر الحياة تحت خانة( ضد مجهول). والقاتل الفرد يختار ضحيته, وبينه وبينها دائما عداوة أو صداقة.. أي علاقة, ولكن هذا المجهول لا يختار.. إن ضحاياه يختلفون من اللواء المتقاعد إلي الشابة المريضة إلي الطفل الصغير إلي السكير الضائع.
ورغم ذلك فالحياة تمضي.. رجل يموت وامرأة تلد, وبالحكمة ينطق المأمور حين يقول إن كتمان الخبر عن الناس معناه اختفاء الموت. نعم! هكذا يريد الكاتب أن يقول لنا.. إنه يريد إن يقول لنا.. إن الوسيلة الوحيدة للتغلب علي الموت هي تجاهله, فلن ينفع في مواجهته ضابط المباحث الذكي ولا الطبيب البارع ولا العالم العلامة, كلهم ستخر رقابهم يوما ما بحبل غير مرئي, لا أحد يري الحبل, ولكن كل منا يري أثره علي الرقاب. هذه النظرة إلي الموت هي التي تتكرر بعض ملامحها في القصص الأخري, فقصة( جوار الله) تتحدث عن عادية الموت وابتذاله حتي كأنه بسيطة من بسائط الحياة, وخيط رخيص من خيوط الوجود الرخيص, وقصة( الجامع في الدرب) تلقي في روعنا أن الموت عشوائي وكذلك قصة( بتوعد), وقصة( قاتل) تتحدث عن الموت كعمل غير مبرر, وقد يكون إزهاق الروح لأسباب واهية لا تكاد يسيغها عقل, وكأن القدر يعبث مازحا. ولكن إذا كانت الحياة والشعر والحب والأطفال, كل ذلك يعيش علي فوهة الخطر إلي هذا الحد, إذا كانت هذه الأشياء الإنسانية العظيمة تقع ضحية صريعة لهذه الخبطات العشوائية فما العلاج إذن؟
العلاج هو.. الزعبلاوي. والزعبلاوي عنوان قصة لنجيب محفوظ في هذه المجموعة, وهو الذي سيعدل حال الدنيا كما ورد في الأغنية الشعبية) الدنيا ما لها يا زعبلاوي... شقلبوا حالها وخلوها ماوي(.. وهو ولي صادق من أولياء الله, وراوي القصة يحدثنا أن الأيام حين جرت صادفته أدواء كثيرة, وكان يجد لكل داء دواء بلا عناء وبنفقات في حدود الإمكان, حتي أصابه الداء الذي لا دواء له عند أحد, وسدت في وجهه السبل وطوقه اليأس فقرر أن يبحث عن الشيخ الزعبلاوي, ويشكو إليه داءه, ويطلب منه الشفاء.
ما هو الداء الذي لا دواء له عند أحد..؟ ليس هو داء في الجسم أو العضل ولكنه داء في النفس.. لعله الافتقار لليقين ووجع القلب من الملل وانعدام المعني الذي تكاشفنا به الحياة.
وبدأ الراوي في البحث عن الشيخ الزعبلاوي, سمع من أبيه منذ سنوات طوال أنه عرف الشيخ الزعبلاوي في بيت الشيخ قمر المحامي الشرعي بخان جعفر, فقصد بيت الشيخ قمر, فإذا بالشيخ قمر قد انتقل إلي ميدان الأزهار, وإذا بالشيخ قمر قد انقطعت الأسباب بين الزعبلاوي وبينه منذ الزمان الأول, وأصبح الشيخ قمر يرتدي البدلة العصرية, ويدخن السيجار وأفتاه الشيخ قمر بأن الزعبلاوي كان يقيم بربع البرجاوي بالأزهر وانتقل الراوي إلي ربع البرجاوي وسأل عن الشيخ الزعبلاوي أصحاب الدكاكين دون جدوي, ثم ما لبث أن قصد شيخ الحارة, ونصحه شيخ الحارة أن يبحث عن الزعبلاوي في حلقات الذكر والمساجد والزوايا, ثم مالبث كواء بلدي أن نصحه أن يقصد حسنين الخطاط بأم الغلام, فقد كان صديقا للزعبلاوي.
كان الخطاط ينقش علي لوحة فضية اسم الله, وأحس الخطاط بقدومه قبل أن يراه, إذن لقد اقترب من الزعبلاوي, كان الخطاط يعيش علي ذكريات جمال وجه الزعبلاوي وذوقه, وقد عاشره حينا كأنه كان يرسمه فيما يرسم, ولكن الزعبلاوي قد انقطع عنه من زمن, ومن العسير أن يعرف مكانه, ونصحه الخطاط أن يقصد إليه في بيت الشيخ جاد الموسيقار بالتمبكشية, وحين قصد الراوي إلي منزل الشيخ جاد, وسأله عن الزعبلاوي قال الشيخ جاد: لقد زارني منذ مدة, قد يحضر الآن وقد لا أراه حتي الموت! إن الزعبلاوي هو الذي يوحي للشيخ جاد بأجمل ألحانه.. كلما غلب الفتور الملحن أو استعصي عليه الإلهام لكمه مداعبا في صدره وضاحكه, فجاش قلبه بالنغم, ولكنه الآن الزعبلاوي لا يستقر في مكان, لأن الدنيا تغيرت وبعد أن كان الزعبلاوي يحظي بمكانة لا يحظي بها الحكام بات البوليس يطارده بتهمة الدجل. وفارق الراوي الشيخ جاد إلي حانة النجمة, حيث سمع أن الزعبلاوي يتردد إليها ليري صديقه الحاج ونس الدمنهوري. كان الحاج ونس يجلس في حانة النجمة سكران, ويشترط في من يجلس معه أن يسكر مثله, ولا يسمح في مجلسه أن يتصل بينه وبين أحد كلام إن لم يكن سكران مثله, وإلا خلا المجلس من اللياقة, وتعذر فيه التفاهم. وسكر الراوي مع ونس, وجلسا ينتظران الزعبلاوي, ولكن أين هو؟ إن الحاج ونس يسهر للقائه ويسكر, ولكنه لا يقدم عليه حينما يريد, قد يزوره أياما متوالية, وقد ينقطع عنه شهورا وأياما وقد مرت النشوة بالراوي, وأغفي ونام, وكان جوعان نوم, وفي أثناء نومه جاء الزعبلاوي ومضي, ولم يره الراوي, وقال له الحاج ونس معزيا مواسيا.. يا خسارة, كان يجلس علي هذا الكرسي إلي جانبك, وكان يتغزل طيلة الوقت بعقد من الياسمين حول عنقه أهداه إليه أحد المحبين. وغادر الراوي الحانة, وهو يترنح, ويهتف عند كل منعطف) يا زعبلاوي(. وما أبعد أعماق هذه القصة وأروعها, وأحفلها بالدلالات الخصبة, فهي لون فريد من الأداء الفني يكاد يختصر تجربة الصوفية كلها في البحث عن يقين. يظل الزعبلاوي طوال القصة مخلوقا بين الحقيقة والوهم, فالذين رأوه رأوه لماما كأنه خاطر علي البال, رآه الشيخ قمر في الزمان الأول حين كان القلب نظيفا والنفس خفيفة قادرة علي التحليق, ورآه الشيخ جاد في ساعات التجلي والإلهام, ورآه حسنين الخطاط وهو ينقش لوحاته, ورآه الحاج ونس في حالة الوجد الشديد, في حانة النجمة. والشيخ الزعبلاوي لا يزور بمواعيد ولا يجيء من يطلبه, إنه يهبط إليك من المحل الأرفع, وكما يقول الصوفيون) الأحوال مواهب والمقامات مكاسب( وقد تستطيع أن تصل إلي مقام الصالحين بكثرة الصلاة وطول الذكر والتسبيح, ولكنك لا تستطيع أن تصل إلي حالة الوجد إلا إذا أراد لك الله.
وحين تصل إلي حالة( الوجد) تستطيع أن تجد التوافق الضائع بينك وبين نفسك, ولعل عدم التوافق هو الداء الذي كان يشكو منه الراوي, وهو قد وجد التوافق حين سكر مع الشيخ ونس ونام, وجد التوافق في الحلم( توافق عجيب بيني وبين نفسي, وبيننا وبين الدنيا, فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ, وليس في الدنيا داع واحد للكلام أو الحركة, ونشوة طرب يضج بها الكون). هل كانت الخمر التي يسكر بها الشيخ ونس هي الخمرة, أو لعلها المدامة التي يسكر بها العاشقون من قبل أن يخلق الكرم, ولماذا لابد أن تسكر مثله قبل أن يتصل بينه وبينك حديث.. ذلك هو شرط الرفقة في الطريق عند الصوفية. والذين يحبون الشيخ الزعبلاوي هم أهل الفن وأهل الوجد.. أهل الفن يرونه في وحيهم وأنغامهم وحظوظهم, وأهل الوجد يسمرون معه ويسكرون بخمر اليقين والسعادة, وكذلك هو الطريق إلي الإيمان بأي شيء.. بالله.. بالقدر.. بالحياة.. خطواته هي الفن والوجد. ونجيب محفوظ يتجلي في هذه القصة كمشروع لطريق النجاة: اسكر بالحب والوجد لتستلقي فوق هضبة الياسمين, نل اليقين ولوفي الأحلام, إن الإنسان جائع نوم, ولن ينام إلا إذا سكر بالحب, فالدنيا أبشع من أن تطاق, بموتها وأمراضها وسفاهات ناسها, وخلاصنا الوحيد هو( زعبلاوي) أو علي الأقل البحث عن زعبلاوي. ذلك هو الوجود في نظر نجيب محفوظ, وعظمة الفنان هي أن يعطينا فلسفته, ولعل رغبة نجيب في إعطائنا فلسفته من خلال مواقف وجوديه لأشخاص هي التي دفعته إلي العودة لأسلوب القصة القصيرة, متدرجا من اللص والكلاب والسمان والخريف. ونجيب في هذه الأقاصيص يكتسب بعدا جديدا, لعله يضاف بعد ذلك إلي الأبعاد التي تميز بها في رواياته مثل الاتساع في الحدث, وبانورامية الشخصيات. وفي اعتقادي أخيرا أن القصة القصيرة عند نجيب, استعداد لوثبة روائية أبعد, وهي بهذا المعني وحده( اسكتشات) أو رسوم تخطيطية, هي رسوم تخطيطية بالمعني الفكري لا بالمعني الفني, لأن نضجها الفني لا يتحدث عنه إلا بإكبار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.