كيف أصبحت مشاهد الثورة المصرية في ميدان التحرير وكأنها صور من تاريخ سحيق, أو حلم رآه شعب نائم لمدة18 يوما, ولما أفاق من نومه استرد كوابيسه التي تعود عليها لأحقاب طويلة؟!. مع إمكانات التكنولوجيا الحديثة, وخاصة ما يسمي الفوتوشوب أو إعادة تركيب الصورة, يبدو أنه لن يستغرب أحد إذا تم تركيب صورة مبارك علي صورة مرسي في أي خطاب يلقيه الأخير, أو العكس دون ملاحظة تغيير كبير في المضمون. وحتي لا نغرق في بحار التحليل التي فاضت في هذا الجانب أو ذاك, فإنه يمكن القول باختصار أن مسئولية ما حدث ويحدث لا يتحملها الرئيس وحده, ولا حزب الحرية والعدالة أو الإخوان فقط, بل لا يمكن إلقاء تبعة كل المسئولية علي أكتاف ما يسمي بتيار الإسلام السياسي. إن المعارضة بجميع فصائلها تتحمل قدرا غير يسير من المسئولية, لأنها استبدلت العمل السياسي الميداني بالنضال عبر الفضائيات والغرف المغلقة, وتسلقت أبراجها العاجية العالية كي تخاطب جماهير غير موجودة بفذلكة ومصطلحات من ميراث كلاسيكيات ما قبل الديمقراطية. بدا الأمر بالنسبة لبعض فصائل المعارضة وكأنه محاولة لقيادة وترويض عدة خيول في نفس الوقت, حتي لو كان كل واحد منها يجري في اتجاه مختلف, بينما استمر البعض الآخر في تكرار نفس الأساليب التي سبق استخدامها بغض النظر عن اختلاف الظروف, بينما ذهب البعض الثالث إلي ممارسة دور المعارضة المستأنسة التي تلعب علي كل الأحبال وكأنها قرد ينفذ إشارات القرداتي في نوم العازب والرقص والتبرم.. وفي حومة تنازع الطرفين حول ما ظنوا أنه غنيمة الثورة, تناسي الجميع أن هذا الشعب المغلوب علي أمره يرغب في تحقيق أهداف واضحة محددة: الخبز, الكرامة الإنسانية, العدل والمساواة, في حين تبارز المحترفون حول صياغة جديدة لمفردات تعيد إنتاج الذل والحرمان والإقصاء, بلا أي علامة إرشاد واضحة تدل علي الطريق الصحيح إلي ضوء أو مخرج في نهاية النفق المظلم. لا يبدو حتي الآن أن أحدا من هؤلاء المحترفين لديه رغبة حقيقية في تحقيق المصالحة الوطنية, وتتجلي بشاعة الصورة في أنه يبدو وكأن الجميع قد اتخذوا قرارا غير مقدس بأن يخوضوا معاركهم الأنانية الشخصية إلي آخر شاب مصري!. شيطان أخرس يوسوس لأهل الحكم بأن التراجع حتي عن الأخطاء الثابتة, يعني ضعفا ويغري الآخرين بالمطالبة بالمزيد.. وشيطان أخرس آخر يوسوس لأهل المعارضة بأن إتاحة أي منفذ أو صيغة لإنقاذ ماء وجه أهل الحكم تعني إضاعة الفرصة في إحكام حصار النظام وخنقه بحبل أخطائه حتي يتم إسقاطه بنفس الأسلوب الشعبي الغاضب الضاغط الذي اسقط مبارك. وفي ظني وقد أكون مخطئا أن كليهما مخطئ, لأن التراجع في عرف السياسة أو الأخلاق أو حتي الحرب لا يعني بالضرورة ضعفا, ففي السياسة قد يكون موقفا تفاوضيا يحسن من شروط الصفقة السياسية, وفي الأخلاق هو فضيلة وشجاعة, وفي الحرب هو مناورة قد تتيح تطويق قوات العدو وحصاره توطئة لهزيمته. ومن ناحية أخري فإن الإصرار علي التضييق علي النظام, وخنقه بحبل أخطائه, وعدم المبادرة بفتح منافذ للخروج, تدفع النظام للتشبث بمواقفه وعناده, وعندما تفعل المعارضة ذلك فإنها تهمل دروس التاريخ التي علمتنا أن المحاصر سواء أكان إنسانا أو حيوانا يتحول بمرور الوقت إلي كائن يائس يهاجم بشراسة كي يفلت من الحصار, لذلك فإنه في العلم العسكري دروس في أهمية ترك منفذ لانسحاب قوات العدو المحاصرة, لأن ذلك يحقق انتصارا ويوفر خسائر لا لزوم لها بين قواتنا. أخطاء الجانبين معروفة ولا سبيل لإنكارها, والخطوة الأولي لعلاج هذه الأخطاء تكون باعتراف كليهما بتلك الحقيقة, ثم البدء فورا في تصحيح هذه الأخطاء, وخاصة تلك البسيطة التي يمكن الاتفاق عليها دون خسارة كبيرة في المصداقية لأي منهما, ومن ذلك مثلا أن يتراجع النظام عن تمسكه بالحكومة الحالية, وأن يقبل بحكم القضاء فيما يتعلق بالنائب العام الحالي, وبناء علي ذلك تقبل المعارضة بالحوار من أجل الاتفاق علي إجراءات بناء الثقة من خلال التوافق علي تشكيل حكومة جديدة وقانون انتخابات يليق بمصر, ويتم إرجاء باقي مطالب المعارضة إلي مرحلة تكون فيها الثقة قد توافرت بين الجانبين. أن تلك الخطوات لا تمثل تراجعا من أي جانب, وإنما هي كما أسلفت إجراءات ضرورية لبناء الثقة بين الأطراف, لأن موضوع تغيير الحكومة يمثل بالفعل إجماعا وطنيا, بل إن هناك أصواتا من الحزب الحاكم تطالب بذلك, أما مسألة النائب العام فقد أتاح الحكم القضائي مخرجا مناسبا هو, من وجهة نظري, فرصة ينبغي ألا تضيع, وفيما يتعلق بقانون الانتخابات فلا يمكن أن يتصور أحد إمكانية عقد الانتخابات بقانون لا يتوافق عليه المجتمع بكل فصائله. ليعلم الجميع أن المصالحة الوطنية ليست فضلا يتفضل به أهل السياسة المحترفون علي شعب مصر الطيب الصبور, وإنما هي في ظل الظروف التي وصلت إليها مصر قد أصبحت فرض عين علي كل مصري ومصرية, ولا يمكن القبول باستمرار التدهور الذي لحق بالاقتصاد, أو تلك المعارك الغبية التي تنذر بحرب أهلية طاحنة, بل يجب تغليب المصلحة العامة علي تلك المصالح المتحزبة الضيقة التي تعكس ضيق أفق وأنانية لم يعد الوطن يحتملها. وفي الختام, فإنه علي تلك الشياطين التي تتحلق بأهل الحكم أو المعارضة علي حد سواء أن تتوقف عن وساوسها التي تجر البلاد إلي هاوية محققة, وهي في ذلك لا تختلف عن وساوس الشياطين الخرساء التي رغم أنها تعرف الحق فإنها تسكت عنه, وقد قيل وهو حق إن الساكت عن الحق شيطان أخرس.. فيا أهل الحكم والمعارضة من حكام ومستشارين وناصحين الحق أبلج كما يجب أن تعرفوا والباطل لجلج, ولن يتبقي علي مائدة الوطن أي غنيمة بعد أن يمزقها الصراع الأعمي.... لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق