من الآثار الفكرية البارزة التي تركها لنا الفيلسوف الإنجليزي الشهير " فرنسيس بيكون " ، عندما رأي أن منهج أرسطو " عقيم" ، لا ينتج جديدا ،وأراد أن يرسي الحجر الأساسي لمنهج جديد ينتج جديدا فيثري الفكر ويجدد الحياة العقلية ، رأي أنه لابد من تطهير الأرض أولا من بعض ما أسماه " الأوهام " ،وهي جملة من النَزَعات التي تأصلت في الكثرة الغالبة من الناس تعوقهم عن أن يفكروا تفكيرا حرا جيدا منتجا 0 من ثم ، فإن تفعيل قوة الجماعة التربوية ، لا يجئ فقط بالتقريظ والمديح ، أو الصمت ،وإنما لابد من شئ من هذا الذي نبه إليه " بيكون " 00 ومن هنا رأينا أنه لا يكفي أن نسوق للمجتمع نماذج مضيئة لرواد تربويين تركوا بصمات مشرفة واضحة علي صفحات التاريخ العلمي التربوي والنفسي ، مثل سيد عثمان ،وفؤاد ابو حطب ، وحامد زهران ، ومحمد الغنام ، والهادي عفيفي ،وغيرهم كثيرون ، بل لابد أن يترافق مع هذا جهد آخر يمسك بالقلم ليشير إلي نماذج أخري مغايرة 0 وإذا كنا نخص هذا وذاك ، بالنسبة للفئة المضيئة ،بالتسمية فإننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالنسبة للفئة المغايرة ، ذلك لأننا هنا نكون إزاء " نماذج سلوكية " لا تخص شخصا بذاته ، وإنما " أنماط " قد يدخل في كل منها أكثر من شخص ، وقد تنطبق علي واحد دون غيره ، وقد تستمر عبر أجيال 0 ومثل هذه النماذج قد أراها أنا كما أصف ، وقد يراها آخر علي غير ذلك ، فالمنافق ، مثلا ، لا يري أنه ينافق ، ولكن يري نفسه ذا ذكاء اجتماعي ، كما يصف البعض هذا النمط ، وعلي أية حال فإن ما سوف نسوقه من نماذج هو فرصة كي يعمل القارئ عقله كي يطابق بين الطرفين ،وإن كان هذا يحمل خطورة خطأ في القراءة ، فيطابق قارئ بين طرفين ليسا مقصودين ، لكنها علي أية حال طريقة في الكتابة استخدمها كتاب سابقون ، مثل " عبد العزيز البشري " ، ومن قبله بعض أدباء المسلمين القدماء ، وفي العصر الحديث ، كان للصحفي الراحل مصطفي أمين كتاب بعنوان ( عمالقة وأقزام ) يعرض فيه لنماذج من الساسة المصريين قبل قيام ثورة 1952 0 النموذج الأول هنا هو نموذج " الشيطان الأخرس " ، الذي قد يكون شخصا طيبا يؤْثِر السلامة فلا يتخذ موقفا من هذه القضية الخلافية أو تلك ، خصوصا إذا كان هناك أشخاص قريبون يمثلون طرفي الخلاف ، ووجه الطيبة هنا أن لا يرغب في قرارة نفسه أن يغضب الطرفين ،والذنب هنا ليس ذنب هذا النموذج ، وإنما هو ذنب الثقافة التي يعيشها ، حيث رسخت تقليدا سيئا يدفع طرفي الخلاف إلي أن يغضبوا ممن يري في الآخر الحق ، ويري الآخر علي خطأ 0 وهذا أيضا معروف في عالم السياسة ، ولعلنا نذكر صراحة النظام الأمريكي اليميني الذي ساد زمن " بوش " الإبن ، عندما أعلن بكل وضوح وبجاحةشعاره المدمر : " من ليس معنا فهو علينا " ! وأذكر مرة ، كان فيها خلاف حاد بين زميل وآخرين ،وكان ذلك ، ونحن خارج مصر ، فرأيت أن أسعي بين الطرفين ابتغاء التهدئة والمصالحة ، حتي لا تسوء صورتنا كمصريين أمام الغير ، ولما انفردت بالزميل أبين له بيني وبينه أنه علي غير حق في مطلب كذا وكذا ، فإذا به يتساءل باستنكار : انت معايا واللا معاهم ؟ " فهكذا البعض يخضع لمنطق القبيلة بحيث يريد من الوسطاء أن يقفوا في صفه هو ، سواء بالحق أو بغير الحق 0 وقد أطلق علي هذا النموذج وصف " الشيطان الأخرس " بناء علي مقولة أن الساكت عن الحق هو بالفعل شيطان أخرس ، لأنه ، دون أن يدري ، يقَوّي جانب الباطل حيث يخصم من ناقديه وكاشفي عَوَرِه ،وهو في الوقت نفسه يضعف جانب الحق ، حيث يخصم من أنصاره ، فكأنه بذلك يحرض علي انتصار الباطل ،وعلي هزيمة الحق 0 وقد لا يكون هناك اختلاف بين طرفين ،وإنما خطأ أو أخطاء يرتكبها هذا أو ذاك ، فإذا بمثل هذا الفريق لا يسعي إلي رد المخطئ ويصارحه بخطئه ، يركن إلي السكوت والسلبية ،وهذا أخطر ما نراه ،وخاصة في العلاقة مع الحكام ، من أعلي سلم الرئاسات إلي أدناها ، في أي موقع اجتماعي : جامعة أو إدارة ، أو مدرسة ، في البيئة التعليمية ،ويترتب علي هذا استفحال الخطأ ، وتمادي الرئيس المخطئ ، بل وتعزيز موقفه ، فيواصل مسيرة الخطأ ، بل ويحدث ما هو أمرّ ، ألا وهو سوء الظن بمن يسعي إلي التصحيح والتصويب ، بل وإساءة الظن به ،وعندما تتكرر المواقف التي تزخر بمثل هذا وذاك ، يضطر الناقد الذي يسعي إلي التصحيح والتصويب إلي الانسحاب التدريجي. أما النموذج الثاني فهو " الوسواس الخناس " ، وهو علي عكس النموذج السابق ، فإذا كان الساكت عن الحق شيطانا أخرسا ، فهذا ليس شيطانا أخرسا ، بل ينشط في القول ،ويبذل الجهد الشاق في العمل 0 وإذا كان نموذج الشيطان الأخرس ، في بعض الأحوال ،يجهل خطورة ما يفعل ، وربما يصدر عن طيبة قلب تصور له أن الأسلم ألا يغضب أحدا ، فإن الوسواس الخناس ، ينطبق عليه الوصف القضائي الذي يوَصّف بعض الأعمال بأنها عن " سبق إصرار وترصد " ،حيث تراه ، بكل ما يتاح له من وسائل ، ينقل أخبارا كاذبة ومواقف غير صحيحة ،وقد لا يكون في ذهن كثيرين أن يتيقنوا ويختبروا ما يسمعون ،وربما يكون الأمر خاضعا لحسن ثقة بقول الوسواس الخناس ، بفضل موقع يكون له ، أو مكانة ، فهنا يلعب كسلنا الفكري الشهير دورا مؤسفا ، ،وقديما قالوا " الزّن علي الودان أمرّ من الديدان " ، فإذا بالفِرية تصبح حقيقة ، يترتب عليها اتخاذ مواقف وتكوين اتجاهات ،وتقرير سلوكيات0 ومع الأسف الشديد ، فإن التقدم التقني قد أصبح مساعدا في الترويج لهذا النمط ، فقد كان الأمر بالأمس محدودا ، يقتصر علي تناقل الكلام شفهيا ، ثم أصبحت هناك صحف ، يمكن أن تنشر ما يثير ويلفت الانتباه ، ولدي كثير من الناس استعداد مسبق للتأثر بالكلمة المطبوعة ،وكأنها الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه 0 ثم زاد التقدم ، فإذا بشبكة " الانترنت " تتيح الفرصة للنشر الواسع وتوسيع دائرة الاتهام الظالم والتقولات الكاذبة والتفسيرات غير الصحيحة 0 وإذا كان هذا السبيل أو ذاك لم يتح للبعض ، فهناك يسر التصوير ،والتوزيع 0 خطورة هذا ، أنه يتم في مجتمع ، ما زالت ثقافته تنهج نهجا غير علمي فتكتفي بما قد يبدو دليلا ، بينما لو دققت النظر في مختلف الزوايا والأبعاد والجوانب ، يمكن لها أن تجد أن القبة قد كشفت عن غير شيخ يرقد نحوها 0 وقد حذرنا الله سبحانه وتعالي من هذا الصنف ، في سورة شهيرة فقال في سورة الناس :(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6))0 وقد لا يكون الوسواس الخناس راغبا في موقع أو مقعد ، لكنه يمارس هوايته لأنه لا يطيق هذا أو ذاك ، حيث لن يستطيع الانتفاع من وجوده ، بل ربما العكس ، ويهمه أن يزرع من يدينون له بالولاء ، ويتخذون من قوله ورغبته فريضة لابد من تأديتها.