لم تكن أحداث العنف الطائفي المؤسفة التي شهدتها مدينة الخصوص والكاتدرائية المرقسية سوي كاشف حقيقي عن حجم وعمق الخلل الذي يعيشه المجتمع المصري منذ عقود وتكرس بعد الثورة, ويتجسد في تصاعد وانتشار أزمة الكراهية بأعراضها في غياب التسامح وتقبل الآخر والتعايش معه واللجوء إلي العنف والقهر الفكري والقمع المادي. فتنة الكراهية لم تعد قاصرة فقط علي المسلمين والمسيحيين, بل طالت كل فئات المجتمع سواء بين إسلاميين ومدنيين وليبراليين وعلمانيين ويساريين, أو بين ثوار وفلول. بات الكل يكره الكل ويشك في الكل, فمدخلات تغذية بيئة الكراهية تزداد يوما بعد الآخر ومن كل الأطراف. النظام الحاكم الذي يسيطر عليه الإسلاميون يغذي بيئة الكراهية بإصراره علي الاستئثار بالسلطة وتهميش التيارات الأخري, حتي وإن كان بآليات ديمقراطية يجسدها الصندوق الانتخابي, ولم يدرك أن مصلحته في استيعاب ومشاركة الآخرين في السلطة أو المشاركة في تحمل تركة المشكلات الكبيرة التي ورثتها وتواجهها مصر, كذلك بحديثه المستمر عن المؤامرة والمتربصين بمشروعه الإسلامي وبمحاولة إسقاط الرئيس. والمعارضة تغذي بيئة الكراهية بافتقادها الحكمة في انتهاج آليات رفضها لهمينة واستئثار التيار الإسلامي, فبدلا من التنافس السياسي السلمي معه وإزاحته عبر صندوق الانتخابات بتقديم برامج بديلة لفشله وإقناع المواطن بإعطائها ثقته وصوته, وقفت في معسكر الرافض دائما لكل شيء والمراهنة علي أن انهيار الأوضاع سيؤدي إلي انهيار النظام الحاكم. والإعلام, سواء الذي ينتمي إلي التيار المدني أو الإسلامي, يغذي بيئة الكراهية في انجرافه إلي التشويه والاتهامات المتبادلة والتخوين والتهويل سواء لخدمة أجندات خاصة أو تحقيقا لمكاسب مادية, وتباري في الإثارة والتهييج تحت مظلة حرية الرأي والتعبير. والخطاب الديني يغذي بيئة الكراهية, عندما يتصدر المشهد بعض النماذج المتطرفة سواء من الجانب الإسلامي أو المسيحي, ويسابق كل منهم عبر القنوات الفضائية أو بعض أماكن العبادة في ضرب وتحقير عقيدة الآخر وينفخ في التراب الذي يتحول إلي نار سرعان ما تدمر الجميع. المولوتوف والشماريخ والخرطوش والرصاص الحي والحرق واقتحام المؤسسات العامة ومقرات الأحزاب ودور العبادة وتحول المظاهرات من سلمية إلي عنف وقطع الطرق وتعطيل مصالح العباد, كلها أعراض لأزمة الكراهية التي هي انعكاس لأزمة العقل المصري وطريقة التفكير في المستقبل أو منهج التعامل مع القضايا ومع الآخر, فالاختلافات السياسية والدينية واللغوية والعرقية, والتي هي أمر طبيعي وصحي وسنة من سنن الكون وتعاملت معها المجتمعات الناضجة لتحولها إلي عامل ثراء وتكامل, تحولت في مجتمعنا إلي خلافات وصدامات وإقصاء, باعتبار أن كل طرف أو فصيل أو فئة أو تيار هو الذي علي صواب وما دونه علي باطل, بينما رشادة العقل تقول إن الكل مواطنون, وإن بناء مصر ونهضتها وتطورها في اتحاد أبنائها المسلمين والمسيحيين وعلي اختلاف انتماءاتهم السياسية, وأن من مصلحة الجميع التوافق والتعاون ونزع بذور الكراهية التي تؤدي إلي الخراب والدمار, وإحلال ثقافة الحب والتنافس علي ابتكار الحلول الإبداعية لمعالجة مشكلاتنا, فعندما تكون مصر قوية وناهضة سيكون الجميع قويا وناهضا والعكس صحيح. الفتنة الطائفية في مصر, والتي كانت مشكلة الخصوص وأحداث الكاتدرائية آخر حلقاتها, لن تتم معالجتها بالأساليب التقليدية أو بسياسة المسكنات المعهودة في إنكار المشكلة وإصدار بيانات رسمية للسلطة ورجال الدين تشي بأنها أحداث عارضة, وإنما من خلال معالجة جذرية لأزمة الكراهية التي تسيطر علي العقل المصري, وترسيخ أن الاختلاف العقيدي أمر طبيعي ولا يضير الآخر, وأن التعاليم الحقيقية للدين الإسلامي والمسيحي تدعو للتعايش والتسامح, كذلك الإسراع بإصدار القانون الموحد لبناء دور العبادة, وقيام النظام الحاكم بتبديد المخاوف الحقيقية لدي المصريين المسيحيين خاصة المتعلقة بتغيير هوية الدولة المدنية بما يدفع الكثيرين منهم إلي الهجرة أو العودة إلي الانعزال عن المجتمع بعد أن برز دورهم الفاعل في الحياة السياسية في اثناء وبعد ثورة25 يناير. الفتنة الطائفية لن تعالج إلا بحلول سياسية شاملة بترسيخ حقيقي لمبدأ وثقافة المواطنة التي تحقق وتضمن المساواة الكاملة بين كل المصريين مسلمين ومسيحيين في الحقوق والواجبات, وتفعيل سيادة القانون في محاسبة المخطئ دون تمييز ديني, وتكريس ثقافة الديمقراطية والتعبير الحر عن الرأي وإدارة الاختلافات والأزمات بأساليب سلمية وبعيد عن العنف. وإذا كانت مصر في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة قادرة علي تحمل أزماتها السياسية والاقتصادية, فلن تكون قادرة علي تحمل اندلاع أزمة طائفية لن تبقي ولا تذر وستكون القشة التي تقصم ظهرها, وما حدث من تنامي ظاهرة العنف في كل الأحداث التي شهدتها مصر بعد الثورة سواء السياسية أو الدينية ينبغي أن تمثل جرس إنذار حقيقي لكل مصري وطني مخلص صاحب عقل وضمير بأن طريق الكراهية الذي نسير فيه سيكون الجميع فيه خاسر وأننا نحتاج إلي تصحيح المسار السياسي وتنقيته من التشوهات التي أصابته وإعادة اللحمة مرة أخري ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين وإنما بين كل أبناء الوطن, وزمام المبادرة الآن بيد النظام الحاكم والرئيس مرسي. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد