في ظل الاتهامات التي لا تتوقف للإسلاميين بالتكريس للدولة الدينية, والرغبة في الاستحواذ علي السلطة, واتهامات مماثلة لليبراليين والعلمانيين بالسعي نحو إقصاء الدين وتعطيل الشريعة ومخالفة نص المادة الثانية من الدستور, حذر علماء الدين من تنامي الخلافات الأيديولوجية والثقافية بين جميع التيارات والأحزاب والقوي السياسية, التي أدت إلي غياب الثقة, بين جميع الأطراف الفاعلة علي الساحة, والتي يدفع ثمنها الجميع. وطالبوا الجميع بالجلوس إلي مائدة الحوار لتقريب وجهات النظر وإزالة التخوف والهواجس بين الجانبين, واتباع المنهج الإسلامي في قبول الرأي والرأي الآخر, ومواجهة الأزمات التي تمر بها البلاد وفق منهج الرسول صلي الله عليه وسلم في إدارة الدولة الإسلامية. وأوضح الدكتور محمد المهدي المختار, الرئيس العام للجمعية الشرعية وعضو هيئة كبار العلماء, أنه لن تكون هناك ثقة بين كل التيارات السياسية مادام هناك عنف وتخريب لمكتسبات البلاد.. فكيف يمكن أن يكون هناك توافق فكري مع من يرفض مبدأ الحوار والجلوس علي مائدة المفاوضات والتعرف علي الرؤي والأفكار لإزالة اللبس بين مختلف التيارات بعيدا عن الاعلام والفضائيات التي تؤجج مشاعر الصراع بين جميع التيارات, فمن يعمل علي التخريب ونشر العنف لا يريد الحوار. وطالب جميع التيارات والأحزاب السياسية بالمشاركة الفاعلة في العمل السياسي, ووضع المصلحة العامة للوطن في مقدمة أولوياته والتنازل عن المصلحة الخاصة بكل تيار أو حزب في سبيل الخروج من أزمة الثقة التي تعيشها مصر اليوم بين كل التيارات حتي يمكن إنقاذ مصر لأن مصر لو سقطت ستسقط علي الجميع, فالمصلحة العامة تقتضي الحفاظ علي مكتسبات البلاد بعيدا عن القتل والتخريب للمال العام والخاص, فالعدوان علي المال العام والمال الخاص جريمة حرمها الإسلام, حيث إن الإسلام ضمن الحفاظ علي الضروريات الخمس المعترف بها في كل الأديان وهي الحفاظ علي الدين والنفس والعرض والمال والعقل, فالحفاظ علي المال أصل من الدين ومن ثم فإن أي عدوان علي الأصول محرم شرعا. من جانبه أوضح الدكتور محمد الدسوقي, الأستاذ بكلية دار العلوم, أن انعدام الثقة بين التيارات السياسية له جذور أساسية خطيرة وهي تتعلق بأن كل التيارات ليست علي وفاق من حيت المنطلق الثقافي والفكري, فهناك تيارات إسلامية ترفع شعار الإسلام وإن كان بين هذه التيارات نفسها بعض صور من عدم الوفاق أيضا, وهناك التيارات الأخري المدنية التي ليس لها منطلق فكري إسلامي وإن كانت في ذاتها مسلمة فإن هذا يؤدي إلي عدم الثقة بين كل هذه التيارات لأن الثقة مردودها التوافق أو التواثق في القواعد والأصول الكلية التي يتبناها الجميع, فالتيارات التي ليس لها قاعدة إسلامية تري في التيارات الإسلامية موقفا مناهضا للتطوير والتغيير والبناء علي حين تري التيارات الإسلامية أن سواها لا ينطلق من قاعدة دينية صحيحة إنما هم يحاولون تحت ستار من الدعوة الوطنية: إبعاد الدين عن السياسة ثم إن التيارات والأحزاب المدنية قد تستخدم بعض العبارات والتصريحات التي تسبب الضيق والنفور منها فرفع شعار أخونة الدولة أمر مشين وكلام غير سليم, فنحن حين نرفع شعار الدعوة الي تطبيق الشريعة بحكم المادة الثانية من الدستور فإننا بذلك لا ندعو إلي أن يكون هناك فصيل واحد بيده النفوذ ويمحو الآخرين, ومن هنا فإن المشكلة ثقافية في جوهرها ثم صراع علي السلطة وهو صراع سياسي ويترتب علي ما أشرت إليه انعدام الثقة بين التيارات والأحزاب السياسية في مصر. وقال ان الطريق العملي لعلاج هذا الاختلاف هو الحوار البناء الذي يتوخي المصلحة العليا للأمة, ويزيل اللبس حول كل المشكلات الخاصة بالعقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي والهوية الخاصة للأمة, وهي هوية إسلامية لا يمكن الجدال حولها, كما طالب التيارات الليبرالية والعلمانية ونحوها بأن تعلن رأيها في صراحة عما يجري من اعتصامات وإضرابات تعطل المصالح وتدمر المؤسسات وتساعد المفسدين في الأرض علي ارتكاب الجرائم المالية ونحوها مما يؤدي إلي ضياع الأمن وفقد الثقة لهذه التيارات. إدارة الأزمات .. ولأن غياب الثقة كان سببا في كثير من الأزمات الراهنة, التي لا يمر يوم حتي يدخل المجتمع في أزمة جديدة, سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية, وفي ظل غياب خطة أو منهج صحيح ينبئ بانفراج أي أزمة, فإن علماء الدين يؤكدون أن الإسلام وضع عددا من الضوابط والشروط للخروج من الأزمات, موضحين ان التاريخ الإسلامي مليء بالوقائع والأحداث التي وقعت فيها أزمات مختلفة, ولكن وجدت من يتصدي لها بعزم وحسم وايمان بالله تعالي مع الاستفادة من خبرات اهل العلم المتخصصين كل في مجاله,حتي انفرجت كل الأزمات,وانكشفت الكروب والملمات, وجاء اليسر بعد العسر, وعن ذلك يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس, أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر, إن لنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة حسنة في ادارة الأزمات, والاستفادة منها, وفي كيفية تحويل المحنة إلي منحة, وتحويل الموقف السلبي إلي إيجابي, وذلك بقوة الإيمان والعزم والتوكل علي الله, موضحا أن النموذج الإسلامي لإدارة الأزمات له قواعد وأصول, منها أن يكون مرجع إدارة الأزمة نابعا من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم, وأيضا شعور القائمين علي ادارة حل الازمة بالطمأنينة والثقة بالله سبحانه وتعالي ثم الثقة بالذات والنفس,واضعين في اعتبارهم قول الله تعاليومن يتوكل علي الله فهو حسبه, وذلك مع التعلق بالله جل وعلا والإكثار من الدعاء, ففي غزوة بدر الكبري عندما ظل النبي صلي الله عليه وسلم رافعا يديه إلي السماء يدعو ربه ويقول:( اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لن تعبد في الأرض بعد اليوم), فما زال يهتف بربه, مادا يديه مستقبل القبلة, حتي سقط رداؤه عن منكبيه حتي جاءه أبوبكر رضي الله عنه قائلا: إن الله منجز وعدك يا رسول الله, ويوم أن قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فقال صلي الله عليه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل, ويقول الله تعالي وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين, ويجب علينا ألا ننسي ان الله يحب الملحين بالدعاء. وأكد ضرورة الاستفادة مما سبق من تجارب ماضية, من قواعد إدارة الأزمات في الاسلام,موضحا ان النبي صلي الله عليه وسلم يؤكد عدم الوقوع في الخطأ مرتين فيقول:( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) متفق عليه, والاستفادة من الأزمة لمعرفة الصديق المساند من العدو المتهرب,فالواجب علينا الاستفادة من تجاربنا السابقة وتجارب الآخرين أيضا والعمل علي قراءة المستقبل من خلال معرفة الماضي للاستفادة من زماننا حتي لا يضيع سدي,وفي الوقت نفسه عدم تقليد المجتمعات الأخري في حلول الأزمات التي تتبعها, فما يناسب مجتمع ليس بالضرورة أن يناسب مجتمعا آخر لعدم تكافؤ الظروف بين المجتمعات. قائد لإدارة الأزمات أما الدكتور فياض عبدالمنعم, استاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر, فيري أن يتبني إدارة الأزمات داخل المجتمع قائد يتمتع بصفات تؤهله لإدارة الأزمات وحل المشكلات, ومن هذه الصفات:العلم والخبرة والذكاء وسرعة البديهة و القدرة علي التأثير في الأفراد و التفكير الإبداعي والقدرة علي حل المشاكل والسيطرة علي الأزمات والقدرة علي الاستفادة من علوم الآخرين وخبراتهم والقدرة علي الاتصال الفعال بالآخرين وتكوين العلاقات الإيجابية والرغبة والحماس, يقول الله تعالي إن خير من استأجرت القوي الأمين. واشار الي ان الموازنة الموضوعية بين البدائل المتاحة واختيار أقربها إلي حل الأزمة وتحقيق مصلحة العمل والمجتمع فيما لا يخالف الشريعة الإسلامية, من قواعد الادارة الناجحة, وهذا ما فعله النبي صلي الله عليه وسلم عندما جمع أصحابه في غزوة الخندق يأخذ رأيهم, فعرضوا عليه آرءهم وكان من بين الآراء رأي سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي أشار إلي حفر الخندق فأخذ برأيه النبي صلي الله عليه وسلم لأنه الأقرب للصواب, موضحا ان الصبر من أهم الصفات التي يجب علي القائد التحلي بها عند الأزمة, وتتضح أهمية الصبر من موقف النبي صلي الله عليه وسلم في حل أزمة الحصار الاقتصادي عليه وعلي الذين آمنوا معه قبل الهجرة, يقول تعالي: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين. من جانبه أوضح الدكتور عطية مصطفي, استاذ الدعوة والثقافة الاسلامية بجامعة الأزهر,ان تجنب الغضب وقت الأزمة ضرورة, لأن الغضب يؤدي إلي تشويش التفكير وعدم التركيز وبالتالي قرارات عشوائية, فعن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي صلي الله عليه وسلم: أوصني, فقال صلي الله عليه وسلم: لا تغضب فردد مرارا, قال: لا تغضب ولك الجنة,بالاضافة الي توسيع نطاق المشاورة من اصحاب الخبرة واهل العلم المشهود لهم, يقول الله تعالي...وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله إن الله يحب المتوكلين. وأشار الي ان التعاون بين الأفراد داخل المجتمع للعمل علي حل المشاكل والأزمات التي يمكن أن يواجهها, من قواعد الادارة السليمة,وقد قال الله تعالي وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان....