اندهشت أمام قدس الأقداس, أي الحجرة الصغيرة في نهاية المعابد المصرية الفخمة في الأقصر وأبو سنبل, لصغر وبساطة التماثيل التي تمثل الآلهة العظام, المفترض عبادتها في مصر القديمة فالمعابد فسيحة ذات أعمدة ضخمة, والرسوم والزخارف متقنة, وقصص الملوك وإنجازاتها وحروبها وانتصاراتها مسطرة علي الجدران بإسهاب وفخامة, وكما هو معروف عن روعة المعابد التي تتكون من عدة ساحات وغرف عبادة مرتبة ومنظمة, لأهداف دينية سامية, حتي تصل للنهاية, إلي أهم هذه الغرف وهي قدس الأقداس ومن المفترض أنها الأهم, فإذا بها الأقل إبهارا. وطلب المرشد السياحي المرافق لنا من ابني, وكان صغيرا في ذلك الوقت ولكنه كان فضوليا كثير الأسئلة سريع البديهة أيضا, ألا يعبث بذقن الإله الذي كان يعبده أجدادنا فهذه الغرفة لم يكن يدخلها إلا الملك الفرعون والكهنة الكبار فقط, ومحظورة علي باقي الكهنة والشعب, فقال له: ولكنها أفقر ما في المعبد, الفراعنة كانوا يوهمون الناس أن تحت القبة شيخ منذ ذلك الزمن؟! رغم بساطة قدس الأقداس إلا أنه يحمل سر عظمة الحضارة الفرعونية, وهو تقديس المعرفة للوصول إلي قدس الأقداس, وهو الخير في القول والفعل في الحياة فالكهنة لم يكونوا إلا علماء وفلاسفة, والمعابد التي يديرونها ليست إلا مراكز اقتصادية وإدارية, لتنظيم المجتمع القائم عليها بعدالة, وأخلاق يؤمن ويرتبط بها الناس طواعية, وبالتالي ينتمون للوطن عن وعي واحترام, مثلما كان شعور سنوحي أشهر قصة في الأدب الفرعوني القديم! و سنوحي كان طبيبا في زمن الملك أمنمحات عام2000 ق. م سمع بالصدفة حوارا يدور بين سنوسرت الأول ابن الملك وآخر, عن محاولة للانقلاب والاستيلاء علي الحكم, وأحس به مدبرا المؤامرة, فهرب منهما مذعورا, لايعرف ماذا يفعل لينقذ الملك, أو ينقذ حياته, فهرب إلي بلاد رتنو, الشام حاليا, وأصبح طبيبا مشهورا وتزوج وأنجب وعاش حياة رغدة, لكن الحنين للوطن كان ينغص عليه حياته, فلا توجد بلد مهما ارتقي فيها تغنيه عن وطنه الغالي مصر, حتي جاءته الفرصة وعالج ملك بلاد رتنو المعادية لمصر, وعلم أنهم سيغزون مصر بأسلحة حديثة, وهي السيوف المعدنية لا الخشبية المعتادة, فعاد إلي مصر ومعه الأسلحة الحديثة, وقدمها للملك أمنمحات وطلب حمايته, وكان له ما أراد, وعدل الابن عن الانقلاب علي أبيه, ومثلما تكشف قصة سنوحي المصري, كما عرف في بلاد رتنو, عن عمق ارتباط المصري بوطنه, تكشف أيضا عن الصراع العنيف علي السلطة, فالسلطة في مصر القديمة كانت من القوة بحيث لاتسمح بالتغيير, الذي هو سمة الحياة وضرورة طبيعية لتجديد الدماء في شرايين الإدارة العامة للبلاد, ولكن كيف يحدث التغيير لملك هو تشخيص لآلهة السماء العادلة, فتشخيص الآلهة في صورة فرعون, لايسمح بالطبيعة بتغييره بعد أن يبلغ هذه المكانة غير الطبيعية في نفوس الشعب فيأتي التغيير العنيف وربما الدموي من المحيطين به من كهنة أو وزراء, أو حتي أبناء فكلهم يعلمون مهما يكن عظيما إنه مجرد... رجل! عاني سنوحي المصري من فكرة تأليه الأشخاص والصراع الناتج عنها, الذي أدي إلي أن ينقلب الفرعون علي سابقه بعنف حتي يحتل مكانه, فيهدم, أو يشوه المعبد السابق, ليبني معبدا آخر يلتف حوله المجتمع, ورغم اندثار الحضارة الفرعونية, ربما لهذا السبب الرئيسي إلا أن بقايا هذه المعاناة مازالت حاضرة, من تقديس الأفراد حكاما ونخبا, مما يدفعنا جميعا إلي الاستغناء عن عقولنا والاكتفاء بتمجيدهم وتبريره, حتي يأتي آخرون يشوهونهم, لا ليعيدوا لنا عقولنا, ولكن ليحتلوا أماكنهم, وأعتقد أن الميزة الكبري والوحيدة للثورات العربية الأخيرة, أنها أعادت لنا عقولنا, رغما عن أنفسنا, فكشفت الجميع فحطمت قدس الأقداس الوهمي لمدعي الاشتراكية والليبرالية والثورجية... فقط أبقت علي قدس الأقداس الفرعوني الحقيقي الذي التف حوله الناس في كل عصر وهو معرفة الخير حق المعرفة أما الأشخاص فليسوا إلا... رجال! لمزيد من مقالات وفاء محمود