بعد التسليم بأبدية وآلية الكون المادي دون خالق, أو بخالق متباعد يحتقر الكون حسب المفهوم الكنسي الغربي, تمت الدعوة لإعادة بناء المجتمع الإنساني علي أسس عقلانية وعلمية رشيدة; لاستكشاف الإمكانات والسعي للتميز والتفرد والجديد وتحقيق التقدم. فالنفس البشرية رشيدة وقادرة علي التفكير الموضوعي وتحصيل المعرفة التي ينتجها العلم, وهي بالضرورة الحق الأبدي والأفضل والأجمل والأصوب والأرفع أخلاقيا, وتؤدي إلي التقدم والامتياز. والعلم دائما محايد وموضوعي, ولهذا يجب تخليصه من أي مصدر غيبي للمعرفة يتجاوز العالم المادي المحسوس الذي يمكن ادراكه بالعقل والحواس والمنطق, التي هي أدوات معرفة الحق بطريقة علمية. وفي عالم يحكمه العقل والمنطق, يتطابق الحق دائما مع المفيد والصواب والجميل. ومن أشهر مفكري هذه المراجعات العالم البيولوجي داروين الذي أربكت نظريته للنشوء والارتقاء إيمان العامة في الغرب بالدين وبالشعور الإنساني بالتفرد, وماركس وفرويد اللذان قدما تطبيقا سياسيا ونفسيا للنظرية نفسها. ومن العلم والمنطق العلمي في جانب, والحواس والغرائز الحسية البدائية والدوافع الباطنية والتناول الآلي للحياة التي لاتحتوي إلا المادة في جانب آخر, بدأ رواد الحداثة في إعادة تعريف كل ظواهر الحياة, ووضعوا عالمهم في قفص الحواس. ثم ادعت مابعد الحداثة أن الحقيقة والأخلاق والجمال مجرد وجهات نظر, تنبثق من فهم الفرد وبيئته الاجتماعية دون حقائق كبري. وأصبح المنظور الفردي مصدرا للأخلاق والإدراك, وأصبحت المعرفة نسبية مرتبطة بالزمان وبالمكان وبالظروف الاجتماعية التي يبني الفرد من خلالها المعرفة من وجهة نظره. وفقدت النصوص الدينية مرجعيتها ودمرت ثوابت الدين, وفقد ماكان يسمي الحق مرتبة المعرفة المشتركة الأكيدة; لأنه أصبح متعددا بعدد الأفراد, يعرف في علاقات دائمة التغير.وفقدت القيم والأخلاق السامية مكانتها وأساسها وأصبحت مجرد أدوات عملية وإجراءات منطقية ورشيدة وذكية يتم اتباعها مادامت ناسبت الظروف, ويتم تغييرها باستمرار لتحقيق المصلحة المتغيرة من منظور كل إنسان حسب ظروف دائمة التغير. تماما كما أراد نيتشه الذي أعلن موت إله لايتدخل في الكون الذي خلقه, وتوقع انحسار ظلاله, أي الأخلاق. أما الأخلاق التي أتت بها الديانات السماوية, فلا يؤمن بها إلا البدائي النبيل الذي سرعان ما يفترسه وحش نيتشه الأشعر الذي مات إلهه وظهرت مشكلات جمة في تعريف الأخلاق والجمال والحق, انتهت جميعا إلي اعتبار أنها وجهات نظر; لأن أحدا لايمكنه ادعاء صلاحية وضع تعريف لها وفرضه علي الجميع. فالأخلاق مع الأضعف منك هي القوة الداروينية والبقاء للأصلح, والبراجماتية والواقعية والاستسلام هي المناسبة مع الأقوي منك. وفي هذه البيئة الأخلاقية البديعة, انشغل علماء الرياضيات في القرن العشرين بوضع قواعد للتعامل الرشيد, فيما سمي نظرية الألعاب( كان أساسها النظري يستخدم أولا لدراسة السلوك الحيواني) وهي دراسة لعملية اتخاذ القرارات الاستراتيجية وتحليل التعارض والتوافق بين كل طرفين, وتحديد أنسب التصرفات بطريقة رشيدة باستخدام الأخلاق النفعية والحسابات الباردة. وكان منهم جون ناش الحاصل علي جائزة نوبل في الرياضيات بعد أن أمضي عشر سنوات في مصحات نفسية لإصابته بالشيزوفرينيا, وتبدو علي ملامحه محنة مرضه( أنتجت هوليود قصته في فيلم العقل الجميل بطولة رسل كرو!). وتفترض النظرية أن كل إنسان يتصرف بصورة رشيدة ومحسوبة وواقعية لتعظيم مكاسبه, دون اعتبارات خلقية لاتقبل الحساب. وتناولت النظرية مواقف المجموع الصفري, وفيها يكون مكسب أي طرف خسارة لغيره. وضربت مثلا بلص سرق حقيبة مجوهرات وأخفاها ويريد بيعها لتاجر مسروقات مقابل حقيبة نقود. فإذا وثق اللص في التاجر عند التسليم وخانه التاجر, خسر كل شيء. وإذا لم يخنه التاجر أخذ مقابل المجوهرات, فحالة اللص هنا تتراوح بين الخسارة التامة وبقاء قيمة مالديه كما هي. أما إذا خان اللص التاجر, فإن التزم التاجر ظفر هو بالنقود والمجوهرات, وإن خانه التاجر أيضا بقيت المجوهرات في حوزة اللص. فوضعه هنا يتراوح بين بقاء ثروته أو مضاعفتها. وتناولت النظرية أيضا معضلة السجينين, ومثلتها بلصين سجنا انفراديا دون تواصل بينهما, ولم يكن لدي الشرطة( اللاأخلاقية) أدلة لإدانتهما. ففاوضت كلا منهما علي حدة, بحيث من يشهد ضد شريكه, يطلق سراحه ويسجن الآخرخمس سنوات. وإذا شهد كل منهما ضد الآخر فسوف يحكم علي كل منهما بثلاث سنوات. فكيف سيتصرف اللصان, وكل منهما لايعرف تصرف الآخر؟ تستنتج حسابات النظرية الرياضية الشهيرة أن الخيانة هي التصرف الأمثل لكل طرف! مع محاولة كل منهما خداع الآخر بأنه لاينوي الخيانة. وعلي هذا الأساس الأخلاقي العجيب, وضعت المعادلات الرياضية المعقدة لحساب التصرفات الاقتصادية للمجموعات الكبيرة من الأفراد والمستهلكين والشركات والأسواق وتحديد سياسات التسعير والتفاوض والاستحواذ, وتكتيكات العلوم السياسية في المناورات الحربية, ولتوقع تصرفات الدول الأخري وتحليل تحيزات الناخبين وجماعات المصالح والساسة, وفي العلوم الاجتماعية لتوقع سلوكيات العامة وخياراتها. ورسمت سياسات الحرب الباردة والساخنة والتعاون الاقتصادي والتحالفات السياسية. ولهذا أشفق علي مفاوضينا الأخلاقيين عند تفاوضهم سياسيا أو اقتصاديا. لمزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم