يقول المثل العربي القديم تمخض الجبل فولد فأرا.. ولا توجد مشكلة في أن يعيش الفأر ابن الجبل حياة الفئران.. يعدو ويقفز بين الصخور يتيه بقوته علي الخنافس ويتنافس في الشجاعة مع الأرانب الجبلية. ثم يختبئ في الجحر إذا هبت الريح.. المشكلة عندما يطلب من هذا الفأر أن يصف الجبل ويحكي عنه.. شرفني زملائي في الأهرام بأن أكتب هذه الصفحة عن والدي وأستاذي أحمد بهجت.. الحكايات كثيرة وعجيبة.. تدور أمام عيني الآن كشريط من فيلم سينمائي مزدحم بالأحداث والأبطال والضحكات واللحظات الإنسانية الموجعة.. وأحمد بهجت بالفعل شخصية مذهلة مثل أبطال الحواديت الشعبية إذا قابلته مرة أو تحدثت إليه دقائق سيظل هذا الحديث محفورا بذاكرتك.. فما بالك إذا عشت معه وبجانبه ما يقرب من خمسين سنة.. كنت في البداية أمسك يده لأعبر الطريق, وأجلس علي حجره حاملا في يدي سميطة أحركها بقوة وأنا أتخيل نفسي قائد سيارة سباق.. بينما الكاتب الكبير يصنع بفمه الموسيقي التصويرية لصوت المحرك, طالبا مني أن ألتهم بسرعة قطعة من الدركسيون وأصبحت أنا الذي أمسك يده في الطريق وأرجوه أن يتناول الطعام في الشهور الأخيرة بالمستشفي, لكنه كان راغبا في الرحيل.. عندما امتنعت الكتابة وعجزت الأصابع المرتعشة عن الإمساك بالقلم الرصاص صارت الحياة عبئا يحتمله في صبر وإيمان وعلي وجهه تلوح الابتسامة الراضية نفسها. المشهد الأول.. جدي الأهرام كنت أظن في مرحلة السميطة أن اسمي بالكامل هو محمد أحمد بهجت الأهرام.. فأنا أسمع أبي في كل مكان يدخل إليه يقول أحمد بهجت الأهرام.. وإذا طلب شخصا في التليفون يقول للمتحدث أنا أحمد بهجت الأهرام.. إذن هذا اسم جدي وعلي الولد الشاطر أن يحفظ اسم أبيه وجده.. وهكذا عندما سألني المشرف علي الحضانة عن اسمي الرباعي قلت له محمد أحمد بهجت الأهرام.. قال الرجل: بهدوء, لا يمكن, ربما اسم جدك مهران أو زهران أو برهام وأنت اختلطت عليك الحروف.. أكدت له أن جدي هو الأهرام فكتبوا كذلك.. وعندما علم أبي بتلك الحكاية ضحك وأصر علي أن يصحبني في زيارة لجدي الأهرام.. كانت المشكلة كيف أدخل المبني العريق وأنا في سن الخامسة من عمري.. وممنوع دخول الأطفال.. وقفنا أمام رجل الأمن وأبي يحاول إقناعه بإمكان دخولي.. والرجل يردد قائلا: لا, يرضيك أن أفصل من عملي يا أستاذ أحمد.. أنت تعرف التعليمات.. قال أحمد بهجت: سأريه المكان فقط.. ربع ساعة وننصرف.. قال رجل الأمن: وإذا رآه الأستاذ هيكل وسألني, فبماذا أجيب؟! قال أحمد بهجت وهو يشير ناحيتي قل له إن هذا الولد يعمل صحفيا في مجلة ميكي. المشهد الثاني.. أجمل أيامي الصيفية أصبحت في العاشرة من عمري وأركب مع والدي علي لوح خشبي في البحر يسمونه بريسوار.. وأحمد بهجت كان يصادق صاحب ألواح البريسوار كما يصادق الغطاس المسئول عن إنقاذ الغرقي.. بل كان في بعض الأحيان يسمح لهذا الرجل بأن يذهب في مشوار ويترك له مهمة الإنقاذ علي الشاطئ من باب الجدعنة.. وكان أحمد بهجت يجيد السباحة بأنواعها ويفضل سباحة الصدر وأخي خالد يغطس في الماء ويقفز كالدرافيل الصغيرة.. ولو أنه ولد بين الهنود الحمر لأطلقوا عليه خالد أخو السمكة.. وكنت أنا أخشي نزول البحر وأبكي كلما حاولوا جذبي إلي الماء.. وضعني أحمد بهجت فوق البريسوار ومضي يجدف بنشاط حتي عبرنا منطقة البراميل, وأصبح الشاطئ يلوح صغيرا في الأفق.. وفجأة دفعني بإصبعه السبابة في كتفي, فسقطت في الماء أصرخ وأبكي وأشرب مياها مالحة.. قال أحمد بهجت بحسم: اترك نفسك للماء.. ضع رقبتك لأسفل.. نفذ ما أقوله.. اضرب الماء برفق.. حرك قدميك.. ثم وجدته يجدف مبتعدا.. فإذا بي أنفذ ما قاله وأتعلم السباحة حتي لا أموت.. وعلي الشاطئ قلت له معاتبا: ألم تخش أن أموت؟ قال بهدوء: ستموت في يوم من الأيام.. وسأموت أنا كذلك.. وكل من أحببت وكل من لم تحب.. لا تخش من الموت.. الله فقط من يستحق أن تخشاه.. الموت مخلوق مثلنا.. وملك الموت الكريم قابض الأرواح مخلوق أيضا مثلنا.. غير أنه ملك كريم.. فكيف يخاف المخلوق من المخلوق؟! ووضع يديه علي الرمل وأمسك بخنفسة مقلوبة علي ظهرها وأعادها إلي وضعها الطبيعي.. قلت مندهشا: ألا تشمئز من الإمساك بحشرة؟! لقد لمستها بيدك.. قال أحمد بهجت: نحن أمام الله أصغر شأنا من تلك الحشرات أمامنا.. والله يمد يده للمخلوق الخاطئ ويعدل سيره ويهديه ويتقبل حسناته بل يتقبل ذنوبه كذلك بالتوبة ويعتبرها حسنات.. لعل الله أن يرحمني مثلما أرحم تلك الخنفسة الضعيفة.. وربت بإصبعه علي ظهر الحشرة بحنان بالغ. المشهد الثالث.. حب مليون واط أصبحت الآن في سن الجامعة وأصبح أحمد بهجت يعاملني كصديق, يسمح لي بأن أجلس بجواره وهو يكتب.. ويسمح لي بأن أقرأ صندوق الدنيا قبل نشره وأناقشه فيه.. قرأ الحزن في وجهي فسألني.. قلت له: إنني أحب وأتعذب بسبب إهمال من أحبها ورويت له الحوار الذي دار بيننا.. سألتني: ما هي أهدافك في المستقبل؟ قلت لها عندي هدف صغير وهو أن أكون أهم شاعر في الوطن العربي.. وهدف كبير وهو أن أتزوجك ونعيش معا.. فقالت: للأسف ليس عندك طموح.. غالبت البكاء وذهبت أشكو لأبي.. استمع إلي تلك القصة التافهة بكل احترام وإنصات.. ثم قال: أنت محظوظ لأنها لم تستجب لك.. كانت هذه البنت تقتل بداخلك حب الأشعار وتحولك من مشروع شاعر إلي مشروع تجاري.. وتنصرف بالوقت عن الشعر إلي الأرقام والحسابات والتطلعات الدنيوية الحقيرة.. اسمع يا بني.. إن طاقة الحب بداخلك مثل لمبة مليون واط, إذا وضعت في دواية110 واط ستحترق ولن تعود للإضاءة.. غدا تراها وهي تجرجر أطفالها وتسير مثل الثلاجة من كثرة الطعام والبرودة فتحمد الله أنها رفضت حبك.. وبعد غد ستكتشف مثلي أن كل ما في الدنيا من نساء وأطفال وبيوت وسيارات وحدائق هي مجرد صور فلا تشغل نفسك بحب الصور ولا تبدد طاقتك فيما لا يفيد.. واتجه بكل ما لديك من طاقة الحب إلي المصور مبدع الصور سبحانه وتعالي. المشهد الرابع.. الوقوع في هوي الكعبة لأحمد بهجت كتاب بهذا العنوان.. الوقوع في هوي الكعبة.. وهو في تصوري أحد العباقرة في اختيار العناوين.. لا أدري هل اكتسبها من العمل الصحفي اليومي.. أم هي حاسة الأديب أم الإثنين معا.. له كتب بعناوين غريبة وبديعة مثل تأملات في عذوبة الكون وحوار بين طفل ساذج وقط مثقف وبحار الحب عند الصوفية وأهل اليسار ياليل وثانية واحدة من الحب وغيرها من عناوين موحية وملغزة في الوقت نفسه.. الآن أصطحب والدي في رحلة عمرة.. والعمرة مع أحمد بهجت شديدة البساطة.. فهو يسافر دائما في الدرجة الاقتصادية.. ولا تتكلف الرحلة تقريبا إلا تذكرة الطائرة ومصاريف إطعام الحمام والقطط في مكة والمدينة.. فهو ينام داخل الحرم ويستخدم دورات المياه العمومية.. وله عامود عند باب الشبيكة يضع فيه فوطة الإحرام وينام عليها معتكفا طوال فترة العمرة.. ثم لا يتناول إلا التمر والماء والزبادي بالدقة.. وهو لا يشتري الطعام إلا إذا كان معه صحبة من الناس ويفضل اللحم المسلوق والأرز دون أية توابل أو بهارات.. وهو إذا ذهب إلي الوضوء ظل لأكثر من ساعة لأنه يحب أن يصب الماء للعجائز ويعين إخوانه في الله.. وهو مشهور بين المصلين في الحرم المكي الشريف أكثر مما هو معروف بين الكتاب والإعلاميين.. جلست معه عند العامود الذي يسميه مكتبه بالحرم الشريف وبيننا اثنان من أصحابه, أحدهما يعمل خادما لتنظيف الغرف بأحد فنادق مكةالمكرمة.. والآخر يملك مجموعة شركات استثمارية كبيرة في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية ولا يجمع بينهما إلا صداقتهما لأحمد بهجت.. وكان يدعوهما في كل يوم من رمضان لتناول الطعام بعد صلاة التراويح.. قلت له مندهشا: أفهم أن تدعو صاحبك الفقير إلي الطعام ولكن ما حاجة المليونير إلي دعوتك؟! ابتسم قائلا: المليونير بخيل.. والبخل يجعل الإنسان فقيرا مسكينا يستحق الصدقة مهما ربح. المشهد الخامس.. صندوق الدنيا كنت أصاحبه عندما أجري جراحة دقيقة في عينه بأحد مستشفيات العيون في القاهرة.. وأمر الطبيب بعدم رفع الضمادة عن العين المصابة وخفض الإضاءة لإراحة العين الأخري.. مع النوم في وضع معين دون تحريك الرأس.. ورغم هذا أصر أحمد بهجت علي أن أحضر له ومعي أوراق وأقلام رصاص ليكتب صندوق الدنيا والنور مطفأ.. ويده تعرف طريقها علي الورق.. والأفكار تنتقل من رأسه وقلبه إلي أصابعه بالسهولة نفسها التي يمارس بها الكتابة جالسا أمام مكتبه.. قلت له: نستطيع أن نطلب لك يوم إجازة.. هذا حقك.. لكنه أصر علي مواصلة اللقاء بقارئ الأهرام في صندوق الدنيا.. والحقيقة التي يصح أن أقولها الآن إن أحمد بهجت كان يكتب في مناخ سياسي واجتماعي أشبه بالنور المطفأ.. وكان يقول دائما في السنوات الأخيرة هذه ليست حكومة.. إنها دار مسنين.. كيف يفكر للمستقبل من ينقل قدميه بصعوبة في الحاضر؟!. المشهد السادس.. حكايات صلاح جاهين واحد من أهم أصدقاء أحمد بهجت في الأدب والحياة هو الراحل الجميل.. الطفل الكبير.. صلاح جاهين.. وأغلب الشعراء كانوا أصدقاء لأحمد بهجت.. فؤاد حداد وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وفاروق شوشة وفاروق جويدة وأسماء عديدة.. لكن تبقي لصلاح جاهين خصوصيته عند أحمد بهجت.. وعندما توفي أستاذي فؤاد حداد في منتصف الثمانينيات دعا فاروق شوشة أحمد بهجت لعمل حلقة عن الشاعر الراحل في برنامج أمسية ثقافية وترشيح الضيوف.. وتشرفت بأن أكون أحدهم.. ممثلا لجيل الشباب.. وسط العمالقة أحمد بهجت وصلاح جاهين والروائي خيري شلبي.. وبعد الحلقة ذهبنا إلي بيت عم صلاح وأخذ يحكي لي عن أحمد بهجت في شبابه.. وكيف كانا يجلسان في شرفة الأهرام القديم يستوقفان سيارة أجرة.. فيقول للسائق: فاضي يا أسطي؟ فيقول السائق: أيوه.. فيجيبه: لكن أنا موش فاضي.. ورايا الشغل.. ويظل السائق يسبهما وهما يضحكان في الشرفة.. ومرة اقترح صلاح جاهين طريق سريعة للوصول إلي الشهرة.. أن يخرجا إلي ميدان التحرير.. فيقف أحمد بهجت عند النافورة القديمة.. ويقف عم صلاح عند سور الجامعة الأمريكية.. ويناديان علي بعضهما بعضا.. فيعرف كل المارة اسميهما.. وضحك عم صلاح ضحكة عالية وهو يتذكر كيف أراد أحمد بهجت أن يتصدق بالبطيخ.. قال: إن الفقير لن يشتري البطيخ لأنه يري أولويات أهم.. فقرر أن يشتري كمية من البطيخ ويوزعها علي الناس في الشارع.. وظل يجري خلف رجل كهل ليعطيه بطيخته والرجل يجري خائفا يظن أن في الأمر خدعة ما. المشهد السابع.. التكريم انزعج أحمد بهجت بشدة عندما أخبره صديقه الفنان الراحل أحمد زكي بأن الرئيس السابق حسني مبارك يريد تكريمه ضمن صناع فيلم أيام السادات.. وقال لأحمد زكي: اعفني أنا من هذا المشوار.. وقال أحمد زكي: لا يمكن أنت المؤلف.. وهذه أول مرة يكرم رئيس الجمهورية صناع فيلم سينما.. واضطر أحمد بهجت للذهاب.. ولا يعرف إلا أفراد أسرته مدي انزعاجه من مقابلة الحكام بشكل عام.. وشاهدناه في التليفزيون وهو يصافح الرئيس. وقتها ويتبادلان جملة حوار.. فسألته ماذا قلت لمبارك وماذا قال لك؟ فأجاب بأسلوبه الساخر: أبدا.. مجرد تعارف.. قلت له أحمد بهجت الأهرام فقال لي حسني مبارك الجمهورية.. وبالطبع هذا الحوار لم يحدث.. ولكنه نسي الكلمات الرسمية.. ولم يعلق بذاكرته منها شيء.. لكن التكريم الذي كان أحمد بهجت فخورا به فهو حفل أقامته مجلة الشباب قبل19 سنة في ظل رئاسة تحرير عبدالوهاب مطاوع.. وذلك بمناسبة بلوغ أحمد بهجت60 سنة.. وكتبت له قصيدة في تلك المناسبة وشارك في الحضور الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل والأستاذ نجيب محفوظ والدكتور مصطفي محمود والدكتور أحمد كمال أبو المجد وعدد كبير من الأدباء والمفكرين.. وحفل غناء عادي أقامه المهندس إبراهيم المعلم قبل عامين في فندق علي شرف أحمد بهجت وحضره ضيوف أغلبهم من الشباب مثل الدكتور علاء الأسواني وبلال فضل.. وقال أحمد بهجت في هذا اليوم أنا كده حسيت إني أخذت حقي من التكريم.. كان التكريم بالنسبة له يعني مجرد التعبير عن الحب والتقدير وليس الشهادات والمقابلات الرسمية التي كثيرا ما هرب منها. المشهد الأخير.. الجنازة قبل أن يدخل أحمد بهجت مرحلة الغيبوبة بالعناية المركزة رأي وهو في غرفته بالمستشفي أنه يصلي في مسجد السيدة نفيسة العلم رضي الله عنها وأرضاها.. وهو من محبي هذا المكان الطاهر.. شأنه في ذلك شأن إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي وكثيرون.. وكانت النية أنه عندما يمن الله عليه بالشفاء سأصحبه ولو علي كرسي متحرك إلي المسجد.. وكان يقول لسائقه الخاص والمحاليل معلقة في يده: مر علي غدا لتأخذني إلي الأهرام.. ثم كان الغد بداية الغيبوبة.. وعندما علمت بالخبر قررت في داخلي أن تكون صلاة الجنازة في السيدة نفيسة.. وكان هذا هو نفس قرار أخي.. دون أن نتقابل أو يحدث أحدنا الآخر.. وفي المسجد رأيت رجلا ملتحيا يخترق الصفوف وسأل عن نعش أحمد بهجت, ثم حكي لي أنه حج معه سبع مرات متتالية وكان رفيقه في الغرفة أو علي الأرض وأخذ يدعو له دعاء تنفطر له القلوب.. كما تحدث إمام المسجد عن محبته لأحمد بهجت من كتاباته وكانت الجنازات كثيرة فلم نستطع الخروج وصلينا عليه ضمن الجنازات القادمة خمس مرات قبل أن نوصله إلي بيته الحقيقي.. وكان هذا اليوم هو يوم ميلاد أمي.. وكان معتادا في كل عام أن يذهب إليها في ذلك اليوم حاملا هديته.. اللهم أحسن إليه كما أحسن إلي وأنر قبره كما أنار حياتي.. واجمعني به وبأمي علي خير وأنت راض عنا.