اليوم استكمل حديثي الذي بدأته في الأسبوع الماضي عن كتاب الأستاذ فاروق القاضي العلمانية هي الحل فأناقش أهم ما جاء فيه من أفكار بعد النظرة العامة التي ألقيتها عليه يوم الأربعاء الماضي. والحقيقة أن كل ما جاء في الكتاب مهم وجدير بالمناقشة لأن صاحبه الذي درس القانون, وآمن بالاشتراكية, واشتغل بالكتابة الصحفية, واتصل بالثقافة الفرنسية, وناضل مع اليساريين المصريين ومع الثوار الفلسطينيين, لا يكتفي بأن يكون متحمسا للعلمانية مقتنعا بأنها الحل, وإنما هو يبدأ فيناقش العلمانية, أصلها وفصلها, وضرورتها وجدواها, وما قاله فيها الأنصار والخصوم, مستخدما في ذلك لغة موضوعية ومنطقا هادئا بعيدا عن الخطابة والمبالغة, فالعلمانية ليست مجرد مفهوم سياسي يفصل بين الدين والدولة, وإنما هي تاريخ حافل لم تنفصل فيه السياسة عن الواقع الحي, ولم تتحقق دون تضحيات. والدولة حاجة أساسية لا تستقيم دونها حياة بشرية, لأن الإنسان لا يعيش إلا في مجتمع. والمجتمع لا يقوم علي الفوضي, وإنما لابد فيه من النظام والقانون. لكن الدين حاجة أساسية أخري لا يستغني عنها الإنسان. لأن الإنسان جسد وروح, وإذا كان المجتمع المنظم يلبي للإنسان مطالبه العملية, فالدين يلبي له حاجته الروحية ويجيب عن أسئلة لا يمكن لغير الدين أن يلبيها أو يجيب عنها, حاجته للعين الساهرة, والرحمة السابغة, والعدل المطلق, وخوفه من الموت, وسؤاله عن المصير. غير أن الإنسان في حاجته للدولة من ناحية وللدين من ناحية أخري يحتاج للحرية ويحرص عليها حرصه علي حياته, لأن الحرية هي الشرط الجوهري الذي تتحق به إنسانية الإنسان. الإنسان حيوان عاقل قادر علي أن يفكر لنفسه, ويختار لنفسه, ويعمل لنفسه, وإذن فهو حر. يحتاج للدولة بشرط ألا تكون طغيانا, ويحتاج للدين بشرط ألا يكون قهرا أو إملاء. والدولة سلطة لكن هذه السلطة لابد أن تعبر عن مصالح الجماعة, وان تستند لإرادتهم. والدين سلطة لكن سلطة الدين لا ينبغي أن تتجاوز حدود الروح. يستطيع رجل الدين أن يعلم ويفتي, ويعظ وينصح, لكن ليس من حقه أن يتسلط ويحكم, أو يمنع ويصادر, أو ينفرد بالرؤي والتفسير, أو يزعم أنه الناطق الوحيد باسم الله. كيف تكون السلطة السياسية معبرة عن مصالح الجماعة مستندة لإرادتهم؟ بالديمقراطية. وماذا تعني الديمقراطية؟ تعني أن تحكم الناس أنفسهم بأنفسهم, وأن تكون الأمة مصدر كل السلطات, فإذا ظهر من يريد أن يعطل حق الأمة في أن تشرع لنفسها وأن تحكم نفسها بنفسها لأن الحكم لله ولكتابه,قلنا له ما قاله علي بن أبي طالب للخوارج: كلمة حق يراد بها باطل! فالله لم يرسل أنبياءه, ولم ينزل عليهم آياته ليمنع الناس من التفكير أو ليصادر حرياتهم, وإنما أرسل الرسل وأنزل الآيات ليحرر البشر, ويخرجهم من الظلمات إلي النور الذي لن يصلوا إليه إلا إذا أعملوا عقولهم وفكروا لأنفسهم., وميزوا بين العقائد الثابتة والشرائع التي تتطور وتتغير. والمسيح عليه السلام يقول لمن سأله: اعط ما لقيصر لقيصر, وما لله لله! ونبي الإسلام صلوات الله عليه يسأل أهل الدنيا عن أمور الدنيا ويقول للمسلمين! أنتم أعلم بأمور دنياكم! وعليكم إذن أن تفكروا لأنفسكم, وتشرعوا لأنفسكم, وتكونوا في الدنيا مصدر السلطات, وبهذا تكون السلطة السياسية معبرة عن مصالح الجماعة مستندة لإرادتها, وكيف يكون الدين تعبيرا عن حاجات الروح وجوابا عن أسئلتها؟ يكون كذلك حين يخلص لرسالته ويلوذ بقلب المؤمن وحده, فلا يستخدم سلطة الدولة, ولا يسمح للدولة بأن تستخدمه. وإذن فلابد من الفصل بين السلطتين. أقول الفصل بين السلطتين, ولا أقول الفصل بين حاجات الإنسان العملية وحاجاته الروحية. الإنسان في حاجة إلي الحرية. لكن الحرية ليست مجرد نظام, وإنما هي في الأساس مطلب روحي وقيمة أخلاقية, والإنسان في حاجة إلي العدل. لكن العدل ليس مجرد تسوية في الأنصبة, وإنما العدل مثل أعلي تتحقق به الفضيلة ويقوم عليه القانون. من هنا تتصل المنفعة بالقيمة, وتتأثر الحياة العملية بالحياة الروحية, كما تتأثر الحياة الروحية بالحياة العملية. هذا الفصل الضروري بين السلطتين, أعني الدولة والدين, لم يكن متاحا دائما, خاصة في العصور الماضية التي كانت فيها المعرفة الإنسانية قاصرة محدودة تختلط فيها الفلسفة بالعلم, ويختلط فيها العلم بالسحر, والواقع بالخيال. وربما ظهر الدين في مجتمع لم يعرف الدولة بعد, فأصبح الدين هو السلطة وهو القانون كما حدث في المدينة بعد ظهور الإسلام. أما في المجتمعات التي ظهرت فيها الدول فقد كانت المعرفة والسلطة والثروة احتكارا في أيدي النخبة التي انفردت بكل شئ, وجمعت في يدها بين مختلف السلطات. فالحاكم هو الكاهن الأكبر, وهو المشرع, وقائد الجند, وقاضي القضاة. وفي العصور الوسطي التي أصبح فيها للدين سلطته المتميزة عن سلطة الدولة ظلت العلاقة قائمة بين السلطتين, وظلت كل منهما تستخدم الأخري. فالحاكم الطاغية يستخدم رجل الدين ليستند إلي الدين في فرض سلطته وتبرير طغيانه, ورجل الدين يستخدم الحاكم في تحويل الدين إلي طغيان سافر وتجارة رابحة. وهكذا كانت الدول التي هيمن فيها رجال الدين علي الأمراء والملوك كما حدث في أوروبا خلال العصور الوسطي, والدول التي جمع فيها الحكام بين السلطتين واستخدموا رجال الدين كما فعل الحكام المسلمون منذ قامت دولة الأمويين في أواسط القرن السابع الميلادي إلي أن سقطت سلطنة العثمانيين عقب الحرب العالمية الأولي. فإذا كانت المجتمعات البشرية كلها قد خلطت بين الدين والسياسة في عصورها الماضية فالمجتمعات البشرية بما فيها مجتمعات المسلمين في تركيا, وإندونيسيا, والسنغال تفصل الآن بين الدولة والدين, والذين يريدون عندنا أن يكون الفصل بين السلطتين مقصورا علي المجتمعات الغربية يريدون في الحقيقة أن تكون الديمقراطية مقصورة علي الغربيين, وأن يكون العلم مقصورا علي الغربيين, وأن تكون العصور الحديثة كلها خاصة بالغربيين لا يسمح بدخولها للمسلمين الذين يجب في نظر بعض الجماعات أن يظلوا محبوسين في العصور المظلمة!