1 بعدما انتهيت من الفرجة علي صورة جونيور بثياب المنجم وضعتها جانبا وتركت بقية محتويات الحقيبة التي أفرغتها علي الكنبة الصغيرة. غادرت مكاني وعبرت الصالة الي المطبخ والبنت الصغيرة قالت جدو وزوجة ابني سألتني إن كنت أريد شيئا وقلت لا ودخلت المطبخ حيث وضعت الماء في السخان الكهربائي, وأعددت الكوب الزجاجي بأذنه الواحدة وحبتين من السكر الدايت, ثم فتحت الخانة العليا من النملية وتناولت علبة الشاي الإيرل جرايالإنجليزية التي أخبئها دائما وراء علب التونة والسردين وأخرجت عبوة بخيط وخبأتها مرة أخري, لو عرفوا مكانها تنتهي في أيام. أثناء خروجي من المطبخ تطلعت زوجة ابني ورأت البطاقة مدلاة إلي جانب الكوب في طرف الفتلة الرفيعة وقالت: إنت عملت يانسون يابابا. وزوجتي قالت: لأ.ده شاي مستورد, مخبيه في النملية ورا العلب. وأنا واصلت طريقي عائدا إلي حجرتي. شيء سييء جدا. 2 وضعت الكوب علي رخامة الطاولة الصغيرة وتناولت صورة أخري. الصور كلها بالأبيض والأسود.. وكانت هذه واحدة لمجموعة من موزعي البريد الشباب يجلسون في الشمس أمام مقهي عبده السروجي صاحب أغنية غريب الدار القريبة من مبني البريد.. كنت في المنتصف تقريبا. عرفت منهم ثروت وسمير وعبدالمنعم إبراهيم ولكني لم أذكر الباقين. كنا نذهب صباحا إلي العمل ويعد كل واحد خطابات منطقته وقبل التوجه للتوزيع نذهب لتناول الإفطار عند اللبان المجاور للمقهي, حيث يأخذ كل منا رغيفا طويلا وكوبا كبيرا من الحليب الساخن وطبقا من القيشاني به أصابع ملفوفة من القشدة, بعدها ننتقل إلي مقهي السروجي نشرب الشاي وندخن ونتكلم. 3 كان عندي صورة لثروت كأنها أخذت بالأمس. كنت معجبا به وشعره الكثيف بلونه شبه الفضي الذي يفرقه من الجنب ويجعل له مقدمة عالية, كان يعطي جانبه للكاميرا بينما يميل بوجهه ليواجهها بابتسامة عريضة وعينين متألقتين. ياقته مفتوحة عن قميص وكرافتة. كانت صورة أخاذة وتجذب عينيك علي الفور وعليها كلمات عن الذكري التي هي ناقوس يدق في عالم النسيان. منذ سنوات قليلة فوجئت به يتصل بي ويطلب مقابلتي نفسي أشوفك. ما أن ذكرني بنفسه حتي هب أمامي بهذه الهيئة التي أعرفها, وعندما التقينا وقفت أستنكر ما أراه أمامي دون أن يظهر علي. كان يلهث بكرشه البارز وقد بدت دماغه مثل كرة ضخمة في لون قلقاسة ممتلئة بالتجاعيد ولاتوجد بها شعرة واحدة. لم أجد فيه أي شيء من ثروت صديقي الذي كنت اعرفه. 4 أنا من ناحيتي كنت أشرب شاي الإيرل جراي الإنجليزي وأنا قاعد علي الكنبة ولا أوافق أبدا أن يترك الواحد نفسه للأيام تقطع الصلة بينه وبين ما كان عليه مثلما فعلت مع ثروت. كل واحد لابد أن يتبقي له شيء, طريقة لبسه أو كلامه أو رائحة من جسده القديم. ثم قلت لنفسي أليس ممكنا أن يكون ثروت فكر مثلما أفكر الآن, خاصة وقد جلس طول الوقت في نوع من التأمل وكأنه ندم علي حضوره؟ إلا أني رجعت أقول مهما كان الأمر, لابد أن يبقي من الواحد شيء, وفكرت أنه ليس مهما أن يتقدم بك العمر, فالدنيا, والأماكن والنساء التي أحببت, كلها تكبر معك, المهم الايضيعك الكبر, وتذكرت ذلك العم الكبير محمود الذي عاصرته لسنوات, تذكرت تلك الخصلة من شعره التي كان يجعلها تتدلي علي جانب جبهته من الناحية اليمني رغم خشونة هذا الشعر, وكيف رأيتها وهي تتضاءل بسبب تساقطه مع الأيام وهو حريص علي أن يجعلها تتدلي في نفس المكان كما اعتاد حتي لم يبق له منها في أيامه الأخيرة إلا شعرتان أو ثلاث, لا أريد أن أقول شعرة واحدة وهكذا مات وهو يبدو في نظري نفس الرجل الذي عرفت. وللكلام بقية [email protected] المزيد من مقالات إبراهيم اصلان