بعد افتتاحه رسميا.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد السيدة زينب رضي الله عنها    426 مليون جنيه إجمالي مبيعات مبادرة "سند الخير" منذ انطلاقها    رئيس اتحاد الجاليات الفلسطينية: إسرائيل لن تلتزم بقرارات العدل الدولية    فتح: نخشى أن يكون الميناء الأمريكي على شاطئ غزة منفذا لتهجير الفلسطينيين    روسيا: مستعدون لتوسيع تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة    الخارجية الروسية: لا نخطط للتدخل في الانتخابات الأمريكية    كولر يعقد محاضرة فنية قبل مران اليوم استعدادا للترجي    بحوزته 166 قطعة.. ضبط عاطل يدير ورشة تصنيع أسلحة بيضاء في بنها    إعدام 6 أطنان أسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بكفر الشيخ    "القاهرة الإخبارية" تحتفي بعيد ميلاد عادل إمام: حارب الفكر المتطرف بالفن    أحمد السقا عن أصعب مشهد بفيلم «السرب»: قنبلة انفجرت حولي وخرجت سليم    وزيرة التخطيط تشارك بافتتاح النسخة الحادية عشر لقمة رايز أب    مصر تشارك بأكبر معرض في العالم متخصص بتكنولوجيا المياه والصرف الصحي بألمانيا "IFAT 2024" (صور)    تضامن الدقهلية تنظم ورشة عمل للتعريف بقانون حقوق كبار السن    الحبس والغرامة.. تعرف على عقوبات تسريب أسئلة الامتحانات وأجوبتها    سعر الدولار فى البنوك المصرية صباح الجمعة 17 مايو 2024    الجزار: انتهاء القرعة العلنية لحاجزي وحدات المرحلة التكميلية ب4 مدن جديدة    مواعيد مباريات الجمعة 17 مايو.. القمة في كرة اليد ودربي الرياض    سيد عبد الحفيظ: مواجهة نهضة بركان ليست سهلة.. وأتمنى تتويج الزمالك بالكونفدرالية    بعد 3 أسابيع من إعلان استمراره.. برشلونة يرغب في إقالة تشافي    ليفربول يُعلن رحيل جويل ماتيب    مصر تفوز بحق تنظيم الاجتماعات السنوية للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في 2027    17 مايو 2024.. أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    مصرع ربة منزل ونجليها في حادث دهس أسفل سيارة بعين شمس    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق بقطعة أرض فضاء في العمرانية    تجديد تكليف مي فريد مديرًا تنفيذيًا للتأمين الصحى الشامل    الخشت يستعرض دور جامعة القاهرة في نشر فكر ريادة الأعمال    برنامج للأنشطة الصيفية في متحف الطفل    وفاة أحمد نوير مراسل قنوات بين سبورت.. موعد ومكان الجنازة    طارق الشناوي ل «معكم منى الشاذلي»: جدي شيخ الأزهر الأسبق    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    دعاء يوم الجمعة المستجاب.. «اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها» ردده الآن    انطلاق قافلة جامعة المنصورة المتكاملة "جسور الخير-21" المتجهة لحلايب وشلاتين وأبو رماد    في 5 دقائق.. طريقة تحضير ساندويتش الجبنة الرومي    مرور مفاجئ لفريق التفتيش الصيدلي على الوحدات الصحية ببني سويف    طريقة عمل الهريسة، مذاقها مميز وأحلى من الجاهزة    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    خبير سياسات دولية: نتنياهو يتصرف بجنون لجر المنطقة لعدم استقرار    «الأوقاف» تعلن افتتاح 12 مسجدا منها 7 إحلالا وتجديدا و5 صيانة وتطويرا    أين وصلت جلسات محكمة العدل الدولية للنظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 17 مايو 2024 والقنوات الناقلة    احذر.. قلق الامتحانات الشديد يؤدي إلى حالة نفسية تؤثر على التركيز والتحصيل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    سيولة مرورية وسط كثافات محدودة بشوارع القاهرة والجيزة    الاغتسال والتطيب الأبرز.. ما هي سنن يوم «الجمعة»؟    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    النواب الأمريكي يقر مشروع قانون يجبر بايدن على إمداد إسرائيل بالأسلحة دون انقطاع    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    "كاميرا ترصد الجريمة".. تفاصيل تعدي شخص على آخرين بسلاح أبيض في الإسماعيلية    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخيانة في العينين

ثم اضفت قبل أن يظن بي الأمين سوءا‏:‏ لكنك يا أخي الأمين‏,‏ أنت تعرف أكثر مني‏,‏ أن ايه خطة تبني علي معطيات‏,‏ وسوابق‏,‏ وحيثيات واحداثيات‏,وهي لا تأتي من فراغ, وانما لكل هذا وأيضا لما جاء قبلها, لأن بعض ما ورد في الخطة كان استكمالا لمشاريع عمرها خمس وأحيانا عشر سنوات, انه مسار يؤدي إلي هذه النتيجة, فأنت لا تستطيع أن تركب حافلة ذاهبة إلي جنزور وعندما تصل إلي هناك تستغرب لأنها لم تصل بك إلي مصراته, لأن لمصراته حافلة أخري وليست هذه الحافلة, فهل تراه كان يريد خطة أخري غير هذه الخطة؟ ليس معني كلامه أننا لم نصل إلي مصراته, ولكنه يريدنا ان نواصل الرحلة من جنزور, وننطلق عبر نفس الطريق إلي مدينة أكبر, ربما إلي الزاوية مثلا.
حسنا, أنت الأمين, وأنت الأدري بتفكير قائدك.
انه قائدنا جميعا.
نعم, ولكن انت الذي يعرف أسلوبه في التفكير والتعامل أكثر مني, وعليك ان تجد حلا.
ستجد طريقة نعالج بها الأمر.
كيف؟
وشرح لي رأيه في ان شطب القائد لكل الخطة لا يعني انه يعترض حقا علي كل ما جاء فيها جملة وتفصيلا, وانه حين تثيره جملة واحدة وأحيانا كلمة في مذكرة من مائة صفحة يمزق المذكرة كلها, وذكرني بحادثة شهيرة جدا عندما تصفح, وهو جالس علي المنصة في مؤتمر الشعب العام, قانونا صادق عليه المؤتمر, وتم خلال تلك الجلسة اعلان صدوره هو قانون الأحوال الشخصية, وقد رأي الناس الأخ العقيد يتصفح القانون أثناء تلك الجلسة, ويصاب بحالة غضب وعنف, فيمزقه بغل وغيظ, ويرمي به في وجوه المؤتمرين, ويترك المنصة, ويترك القاعة مغضبا, وسط دهشة الجميع, ودون ان يقول كلمة واحدة عن سبب غضبه, أو ما الذي اثاره في القانون الذي طبعا تم الغاؤه, ولم يتضح إلا متأخرا جدا, ان ما اثاره كان كلمة واحدة وردت في ديباجة القانون وتشير إلي قانون سابق في العهد البائد, وعبارة الصادر بمرسوم ملكي وكانت هذه الاشارة التي املتها المرجعية القانونية هي التي اثارته, فالقائد كما يقول الأخ الأمين لديه حساسية ثورية لكل اشارة إلي الملك والملكية, وهو يطلب مني اعادة قراءة الخطة بحثا عن كلمة يمكن أن تكون قد تسببت في استفزازه, واذا لم يكن ممكنا الاهتداء إليها, فهو يريدني ان اعيد صياغة الخطة بحيث اضع فيها الحقائق كاملة أمام الأخ العقيد, لأن الخطة السابقة كانت تكتفي بوضع أسماء المشاريع, وأرقام التكلفة دون اشارة إلي الدوافع والأسباب والأهداف المبتغاة, وان أعكف علي هذه المهمة وأتفرغ لها حتي أكمل انجازها.
فشلت صراحة, عندما عدت إلي البيت, واعدت قراءة الخطة, في وجود تلك الجملة أو الكلمة التي استفزت القائد وادت إلي هذا الالغاء الكامل للخطة, ورأيت ان الغاءها بهذا الشكل الأهوج يعد اهانة لكل العاملين في هذه المشاريع, واستهزاء واستهتارا بكل جهد بذل في اعدادها, بل كل جهد وراء المشاريع التي امضي الناس عشرات من اعمارهم يعملون فيها, تخطيطا وانجازا, مثل مشاريع السدود التي باشروا انشاءها لاحتواء مياه عدد من الأودية, وهناك مشروع احرز بعض النجاح في تنمية وتخصيب بذور القمح والشعير وقد يبدأ في اعطاء نتائجه قريبا بإذن الله, وأي اجتراء علي هذا المشروع سيكون جناية علي البلد, وهناك مشاريع كلفت مئات الملايين ولابد من مواصلة الانفاق عليها مثل مشروع البتروكيماويات, حتي تكتمل وتصل مرحلة الانتاج. مضيت في الكتابة بهذه الروح, التي تدافع بقوة علي كل مشروع, وتظهر ضرورة الاستمرار فيه, وتنبه إلي خطورة أو بالاحري جريمة ايقافه, ولم تأخذ مني الخطة الجديدة, بما يرافقها من مذكرات تفسيرية, غير يومين اثنين, كان في اثنائها حجم الخطة قد تضاعف فراجعتها مرة أخري, للاختصار هذه المرة, ولكي اجعل الاضافات لا تزيد علي نصف حجم الأوراق في الصيغة القديمة, وبما لا يزيد علي مائة صفحة,وتفرغت يوما ثالثا لرقمها, واخذتها إلي الأمين العام الذي أمر بأن يعاد وضعها في أوراق تحمل ذات التلوينات الموجودة في الخطة الأولي, وتركته يقرأها ويحيلها إلي قائده وعدت انتظر النتيجة.
علمت منه بعد يومين انه قام بارسالها إلي قلم الأخ العقيد كما هيعلي أمل أن يجد فيها ما يقنعه باعادة النظر في جدواها, والمصادقة عليها, لكي يتم بعد ذلك الاقرار الشكلي لها من مؤتمر الشعب العام. وجاء الاستدعاء بعد اسبوع, ولم يكن هذه المرة عن طريق الأمين, وانما كان قلم القائد نفسه علي الهاتف, يطلب مني الحضور مساء نفس اليوم عند الساعة السادسة إلي مقر القيادة في باب العزيزية, وانتباني شيئ من الاندهاش وأنا أري الاستدعاء يأتيني مباشرة دون مرور بالأخ الأمين, ورأيت ان اتصل به لكي لا يعتقد أن لي اتصالا من وراء ظهره بالقيادة, واخبرته عن الهاتف الذي جاءني في البيت, فقال بان هذا ما تكهن به عندما جاء اتصال من نفس القلم يسأل عن رقم هاتفي, وانه ادرك عندما اعطاهم الهاتف ان هناك اتصالا سيجرونه من اجل اللقاء, وانه في هذه الحالة يري أن أذهب بنفسي, وعندما احس بشيء من القلق ينتابني طمأنني إلي أن الأخ العقيد يحب أن يتولي معرفة الحقائق من مصادرها مباشرة, دون تلوينات قد يقوم بها اصحاب المسئولية مثل الأمناء. وغيرهم, فهو في حالات كثيرة يريد أن يأخذ المعلومة من الخبراء بدل المسئولين, ولم يكن امامي إلا ان تحركت بسيارتي إلي هناك بحسب الموعد, إلا أنني وجدت هذه المرة من يوقفني بمسافة مائتي متر قبل البوابة, ويطلب مني ركنها في مكان هناك, وعندما وصلت إلي البوابة سيرا علي الأقدام, وجدت جنديا في انتظاري ليصطحبني عبر البوابة الثانية والثالثة, ويقودني إلي مكتب القلم حيث انتظرت في صالة واسعة خالية, مدة نصف ساعة أو أكثر, قبل أن يأتي موظف يرتدي الملابس المدنية, ويقودني من طريق مختلف, إلي الخيمة, وقد بدأت العتمة تلف المكان, والنار تستعر امام الخيمة, والقائد موجود في مكانه المعتاد, ورأيته يمد لي يده هذه المرة دون وقوف, وامامه صحيفة الفجر الجديد التي واصل قراءتها بعد ان اشار لي بالجلوس, في مقعد يواجهه وبيني وبينه الطاولة الصغيرة التي يقبع فوقها هاتف ابيض لا يرن, ورأيت ملف الخطة بأوراقه الملونة بجوار الهاتف, ومضي يقرأ الصحيفة صامتا, دون ان يلتفت نحوي, ودون ان اجد شيئا اشغل به نفسي, فهناك جهاز تلفاز مقفول, والنار تستعر والرجل الذي يعد الشاي في مكانه امام الخيمة, لم يكن فيما يبدو قد أخذ اذنا بجلب الشاي, أكثر من حارس يتناثر في البعيد وقد تحولوا إلي اشباح تلفهم العتمة, وكان البرد هذه المرة أكثر احتمالا, ومع ذلك احتفظت بالمعطف ولكن دون ان ازرره حول جسمي, وبعد اكثر من نصف ساعة طرح الصحيفة جانبا وأمسك بالخطة قائلا:
هل حقا انت من كتب هذه الملاحظات؟
لم يكن ثمة جوانب اخر غير ان احني رأسي موافقا, مضيفا:
باعتباري رئيس اللجنة فقد رأيت أن الواجب يقتضي أن أقوم بتوضيح كل جانب من جوانبها.
نظر نحوي ولم يقل شيئا فأضفت:
رأيت أن رفضكم لها وشطبكم علي كل صفحاتها جاء بسبب تقصيرنا في الشرح والتوضيح.
شرح وتوضيح ههههههه, شرح وتوضيح ههههههههه.
ظل يعيد شرح وتوضيح ويتبعها بضحكة عدة مرة قبل أن يكمل:
هل عددت كم جريمة احتوت هذه الخطة؟
نظرت نحوه في بلاهة, لأنني فعلا لم افهم ما يقصد بكلمة جريمة, استطرد.
الم تعتبر أن ايقاف أي مشروع في هذه الخطة, جريمة؟ إذن فهناك جرائم بعدد المشاريع, لعلها تزيد علي مائة مشروع, لا حول ولا قوة إلا بالله, ألا تراه عددا كبيرا من الجرائم يا دكتور؟.
رايت الكلام ياخذ منحي خطيرا جدا فلم أجد ما اقول لان أي كلام أدافع به عن نفسي سيبدو صغيرا ضئيلا بجوار التهمة.
استغفر الله أيها الأخ العقيد, استغفر الله, لم أرد إلا أن أكون أمينا معك في عرض أفكاري, واتوسل إليك أن تغفر لي إذا كنت اخطأت في فهم ما تقصد؟.
ودون اعتبار لما قلته من اعتذار واستغفار, وضع عينيه كانهما مسماران في عيني, وقال تلك الجملة المرعبة التي جعلت كياني كله يرتعش:
اعرف الخائن بمجرد النظر في عينيه.
هل تراه حقا يتحدث عني؟ هل يقصدني أنا بهذا الكلام الخطير ؟ الطريقة التي نظر بها نحوي وتوجه بالخطاب لي, لا تترك مجالا للشك أنني المعني به, ومع ذلك فقد بقيت التفت شمالا ويمينا أكثر من مرة وأنظر خلفي بأمل أن أجد انسانا آخر عناه بهذه الكلام, أدركت أن الموقف كله, منذ أن وصلت إلي هذه الخيمة, كان يقود إلي هذه الجملة, بدءا من سلامه البارد, واهمالي جالسا, وهو يقرأ الصحيفة, ورجل الشاي الذي لم يتحرك بسفرة الشاي طوال هذه الجلسة, وبدا الأمر أكثر رعبا عندما رفع صوته قائلا:
يا عامر. فتحرك شبح من الاشباح المتلفعة بالعثمة, ومدفعه الرشاش معلقا علي كتفه, قادما باتجاه الخيمة, زاد الامر رعبا رأيت الملامح القاسية للرجل, وبريق عينيه, وقد انعكس عليهما لهب النار, هل سيأمره قائده حقا بان يطلق النار ويرديني قتيلا؟ ظللت في صمت, متوقعا الاسوأ, إلا أن العقيد قام واقفا وتحرك بخطي سريعة خارج الخيمة, وهو يشير إلي عامر الحارس أن يأخذني إلي الباب.
تنهيدة ارتياح تنهدتها وأنا أقف اتبع الرجل نحو البوابة, لم يكن مهما ان يكون الاخ العقيد قد نهض واقفا وغادر الخيمة دون أن يصافحني, دليلا أكيدا علي غضبه مني, وهو أمر يوجب القلق والخوف, إلا أن حقيقة أنه لم يأمر الحارس عامر بقتلي, كان هو ما يهمني تلك اللحظة, وهو ما جعل مشاعر الارتياح تطغي علي مشاعر القلق والرعب التي يوحي بها موقفه الحانق, حالة الارتياح التي جاءت نتيجة ما اعتبرته نجاة من الموت, لم تدم طويلا, فهناك في جملة القائد موت مؤجل لا أدري متي يأتيني, فعاودني قلقي بمجرد أن وصلت سيارتي وقدتها بشيء من الارتباك, ولم يكن غريبا بعد أن دخلت إلي البيت, أن تكتشف زوجتي أن حالتي تستوجب القلق, وتسألني بفزع عما اصابني, فحاولت أن اطمئنها, واتظاهر بأنني قد عدت إلي طبيعتي, لكن شهيتي للطعام, فارقتني فلم استطع أن اتناول شيئا من صحون العشاء التي وضعتها امامي, ووجدتني اتقلب في السرير قلقا, ولا ادري ماذا دهاني, واستيقظ من نومي صارخا, لأن الحارس عامر تصرف في النوم بطريقة مختلفة عما حدث في اليقظة, فقد تلقي امر القتل وافرغ رصاص مدفعه الرشاش في صدري, وكان أول شيء فعلته في صباح اليوم التالي أن ذهبت إلي الأمين الذي كان صاحب هذه الورطة, انشد أن يبدد ما اعتراني من قلق, بسبب ما حدث اثناء لقائي منفردا بالاخ العقيد, فوجدته يتناسي حالتي, ولا يتذكر إلا نفسه, يسألني بشيء من اللهفة والقلق, عما اذا كان الاخ العقيد قد جاء علي ذكره, وماذا قال عنه, وهل أبدي لوما أو تقريعا يخصه, لانه اعاد الخطة اليه بكل ما تحمله من ملاحظات, ولدقيقة بقيت صامتا لا أجيب عن سؤاله, أفكر ماذا لو وضعت في نفسه شيئا من الرعب الذي أصابني, ماذا لو قلت له إنه غاضب يسأل ان كنت قد قرات ما كتبته وكيف سمحت لنفسك بعد أن قراته, أن ترسله اليه, وأنت تدرك أنه سيكون مصدر غضب له, واقول له أنه غاضب منك لأنك أنت من طلب مني أن أكتب هذا الرد الذي وجد فيه العقيد تحديا له ولافكاره وتوجيهاته, كنت علي يقين أنه سيصاب بصدمة كبيرة, قد تورثه كآبة تبقي معه مدي العمر, ربما فعلا كنت شخصيا اخشي تهديده الذي قد يصل إلي قتلي, ولكن الامين لا يخشي فقط القتل مهما كان بعيد الاحتمال, إن لديه أشياء أخري قبل القتل, هي طرده من منصبه الوزاري, وطرده من مكانه المتميز في اللجان الثورية, وسيفقد تبعا لذلك مزايا كثيرة, قد تطال المزرعة الممنوحة له, ومجموعة السيارات الموجودة في المزرعة, وفي البيت, وأمام الأمانة, وسيفقد سائقين وخدما وعمالا في المزرعة, ويتقاضون مرتباتهم من الدولة, لديه الكثير مما سيفقده, ولذلك, فيمكن لكلمة اقولها له أن تجعله مريضا علي الفور, وهو يستحق هذه الصدمة, وهذا المرض, لانه هو من كان وراء هذه المحنة التي اتعرض لها, ولكنني تراجعت عن ايلامه, بسبب ان هدفه من تعييني في اللجنة, وتعييني رئيسا لها, كان بدافع الخير وليس بغرض ان يعمل شرا لي, ولهذا قلت له الحقيقة, وأن الاخ العقيد لم يذكره بأي سوء, وانه بدا غاضبا مستفزا لانه فيما يبدو رأي في التوضيحات التي كتبتها اجتراء علي مكانته, ونقضا لارادته, وصار يشك انني فعلت كل ذلك بدافع قلة الولاء, وربما الخيانة له وللثورة التي يمثلها, وعندما سأل عما جعلني اصل لهذه النتيجة, نقلت له الجملة المخيفة التي قالها لي:
أعرف الخائن بمجرد النظر في عينيه.
فهل هناك شك, قلت للاخ الأمين, في حقيقة ما تحمله هذه الجملة من تهديد ووعيد, وضع امامي ورقا وناولني قلما وسألني أن أكتب, وهو يملي علي صيغة رسالة استجداء اطلب فيها أن يسامحني, بادئا بكلمة سيدي القائد حفظه الله ورعاه, لم أسرع بكتابة ما اراد أن يمليه علي, إلا أنه ألح أن أكتب ما يقول إذا اردت لنفسي النجاة, فاذعنت لما قال, وأكملت كتابة رسالة الاسترحام والاستعطاف التي أطلب فيها العفو والمغفرة لما ارتكبته من أخطاء, كما املاه الأمين, أرجو القائد العظيم ان يسامحني لان كل ما فعلته بنية طيبة وحرص علي تنفيذ ما يريده وما يأمر به, معاهدا الله ان اضع علمي رهن اشارته, والتزم بتوجيهاته, وألا أحيد قيد انملة عما يصدره من تعليمات, وما يراه من رأي وافكار, ووضعت اسمي وصفتي كاستاذ في كلية الاقتصاد ورسمت توقيعي واعطيت الورقة للامين لكي يتولي رفعها إلي سيدي القائد, ثم تناولت ورقة أخري كتبت فيها استقالتي من اللجنة, دون أن أجد اعتراضا منه علي الاستقالة, وأرحت نفسي من عناء الخطة الخمسية, وما يحدث لها من الغاء أو تعديل أو إضافة.
وعدت إلي روتين العمل في الجامعة, وقد صار مع مرور الأيام ينزاح عن نفسي ثقل ذلك التهديد, دون أن يزول تماما, فقد واصلت الحذر والاحتراز, بأن التزمت البيت, فلا اخرج إلا للعمل في الجامعة, خوف الاختلاط بالناس في المقهي, الذي يجلب اللغط ويعرضني للاحتكاك بكتبة التقارير, متمنيا ان تكون رسالة الاسترحام قد أدت مهمتها في شرح موقفي له, وافهامه أنني لست قاصدا أن اتحدي إرادته أو اظهر أي أعتراض علي أفكاره, ولم اسمع شيئا من الأمين يفيد بأي رد من الأخ العقيد حول تلك الرسالة, لم أكن اتصل بمكتبه, إلا أنني كنت اراه لماما في الكلية, فلا يزيد الكلام بيني وبينه عن التحية, وحمدت الله بيني وبين نفسي أن أمر التهديد الذي سمعته من الاخ العقيد لم يصل إلي الكلية, وإلا لكنت بالتأكيد قد واجهت من الاساتذة والطلاب الثوريين, غضبا أكثر, مصحوبا بالازدراء والاحتفار لانني جلبت غضب القائد علي نفسي. لم تكن هناك وسيلة أعرض بها ما حدث حقا للخطة الخمسية, وكيف تم حل الاشكال, وهل هناك من وضع خطة بديلة, وكيف, ولهذا فقد مرت بضعة أشهر دون أن أجد وسيلة أرضي بها فضولي لمعرفة ما حدث, إلا أن هناك موعدا له أهميته وخطورته في هذا الخصوص, يمكن أن استشف من خلاله ما حدث, هو موعد انعقاد مؤتمر الشعب العام المقبل الذي يحل موعده في الثاني من مارس, إذ أن هذا التاريخ يتزامن مع موعد بدء الخطة الخمسية الجديدة, وانتهاء القديمة, ولهذا صرت ارتقب المؤتمر, بشيء من القلق والفضول, القلق لانني اعرف مايقولونه عن طبيعة الاخ العقيد التي تشبه طبيعة الابل, في حقده وتخزينه لهذا الحقد الذي لايعرف موعدا لانتهائه, ولايسقط بالاقدمية, فكما يفعل الجمل عندما يتقدم للانتقام من انسان اغضبه, ولو بعد مضي عدة سنوات, فكذلك السيد العقيد الذي يفتخر بعلاقة الامومة التي تربطه بالناقة, التي تربي علي حليبها, والتي تحظي بحمايته, ورعايته, ويضع صورتها علي العملة, ويصطحبها احيانا في طائرة خاصة الي المؤتمرات الدولية, لكي يشرب حليبها, اما الفضول فانه لابد ان نسمع في هذا المؤتمر شيئا يتصل باقرار الخطة الجديدة, واتحرق توقا لان اعرف ماهو هذا القرار. وجاء يوم انعقاد المؤتمر, وحضر العقيد جلساته, متوسطا اعضاء الامانة فوق المنصة, وانقضي يوم اويومان قبل ان يأتي موعد مناقشة الميزانية وخطة التنمية, واخذ العقيد ناقل الصوت يتحدث عما تم انجازه في مجال التحول, الذي قفز بالبلاد من حالة التخلف الي النهوض, وانتهي بعد هذه المقدمة الي اعلان هجوم ساحق علي السياسات السابقة التي اعتمدت العمل باسلوب الخطط الخمسية, في حين الصواب هو العمل عاما بعام, ويوما بيوم ومتابعة المشاريع دقيقة بدقيقة, بدلا من هذا التفكير الشمولي لانه ليس جديرا بالدول ذات السلطة الشعبية والديمقراطية المباشرة, فهو تفكير ينتمي الي عهود الانظمة الشمولية واكثرها إلحادا وطغيانا مثل الدولة البلشفية التي ورثها ستالين عن لينين وروجت لها بقايا الاحزاب الشيوعية في العالم العربي, وبنيها عناصر تسللت الي الثورة فاخدع فيها الثوار, ظنا منهم انهم اهل خبرة وكفاءة وعلم في الاقتصاد والتخطيط, بينما هم معاول هدم وتخريب, ثم وكانما تذكر شيئا يضايقه, فازدادت وتيرة الغضب لديه وازداد صوته ارتفاعا, وهو يقول ان الامر لايتصل بمجرد جماعات انقرضت كانت تعيش قديما في كنف عنصر متآمر استلم لفترة من الوقت وزارة التخطيط قبل هروبه خارج البلاد, وانما الان في هذه الايام, هناك من يطل برأسه, بالتآمر علي سلطة الشعب التي تكره التفكير الشمولي والخطط الاستبدادية في التنمية والتخطيط, وهو يقرع نواقيس الخطر لمثل هذا التفكير, وينبه لخطورة مثل هذه الخطط, المقتبسة من فكر تبث فساده, تتبناه عناصر من اهل التآمر والدسيسة, ورفع امام كاميرات التصوير تلك الخطة ذات الورق الملون التي رفعناها اليه مصحوبة بما كتبته من شرح وتوضيح قائلا لجمهور المؤتمرين:
البقية الاسبوع القادم
المزيد من مقالات د.أحمد ابراهيم الفقيه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.