من الحياة يكتبها: سيد الهادي أعاود التأكيد في هذا المقام وأنا أقص عليكم ما كان.. من حديث النفس قبل وأثناء وعقب جراحة القلب المفتوح.. إنني أحاول في هذه الكتابات أن أفتح قلبي من جديد.. أبحث فيه عن ما يمكن أن أجده من ذكريات استرجعها معكم.. ربما محاولة مني أن أربط جسور المودة وأوطدها معكم.. وفي نفس اللحظة أفضفض عما في نفسي.. وبالتأكيد.. الفضفضة في حد ذاتها.. شفاء.. أو اكتمال العافية. وتعاودني الذكري.. الأحد.. الثاني من مايو الماضي.. الرابعة مساءً.. وأنا أرقد علي السرير المتحرك من غرفتي بالمستشفي حيث كنت أقطن في الحجرة رقم 1115 في الدور الثاني بمستشفي دار الفؤاد.. إلي جناح العمليات يدفعني ممرض لا أتبين ملامحه.. وممرضة فلبينية ضعيفة البنية.. في وجهها ملامح أسيوية.. لا تخطؤها العين.. منشغل عن من حولي بالتطلع إلي السقف الذي يمر فوقي.. أحملق فيه.. وأنا أفكر فيما أنا مقدم عليه.. أتأهب لولوج الخط الفاصل بين المستشفي وجناح العمليات.. خط أحمر مرسوم علي الأرض.. حولي زوجتي إيمان.. وولداي نبيل وهادي.. لحظات.. لا أظنها ستغيب عن بالهما إلي الأبد.. ونظرة لمحتها في عين زوجتي.. آخر ذكرياتي معها قبل أن أدخل إلي جناح العمليات.. نظرة صامتة ولكن قرأت وفهمت منها الكثير.. عشرة عمل طويل لا تهون.. وولجت الباب الذي سأجتازه وحدي.. غير مسموح لغيري بالدخول معي.. ويغلق الباب.. فاصل بيني وبين من أحبهم. قد لا تصدقوني.. ولكني أقسم إنني بمجرد أن أغلق ورائي الباب الذي يفصلني عن الأحباء.. غرقت في عالم آخر.. وجدتني أنشطر شطرين.. شطر بكامل الوعي.. أقرأ ما تيسر لي من القرآن.. وأكثر من الاستغفار.. وذكر الله الذي أذكر أنني تلوته وكررته.. آية الكرسي.. وأواخر سورة البقرة.. وسورة الحشر.. والإخلاص.. وللإخلاص معي سر خاص.. أحبها.. وأدعو الله أن يدخلني الجنة بحبي لها.. سورة التوحيد ثلث القرآن.. ولا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الحمد وله الملك يحيي ويميت وهو علي كل شيء قدير. والشطر الثاني.. مني منشطر الوعي.. أحاول أن أرقب ما حولي.. خلية نحل في الممر الذي يفصل بين الباب وباب حجرة التخدير.. ممر طويل.. وحولي وجوه كثيرة.. غير مبالية بي.. تشد عيني امرأة طويلة أمريكية أو أوروبية الملامح.. ترتدي لباس غرفة العمليات.. ضخمة الجثة. شقراء الشعر.. ويقترب مني بعض الأطباء.. أسأل عن الدكتور خالد سعد.. طبيب التخدير.. لم أره من قبل.. وإن كنت واثقاً إنه في انتظاري.. يحمل توصية من ابن اخي الدكتور أحمد الهادي استشاري جراحة العظام.. أوصاني أن أحرص علي أن يقوم بتخديري الدكتور خالد.. زميل له في المستشفي.. في دار الفؤاد.. الدكتور أحمد الدمرداش.. استشاري تخدير هو الآخر.. ولكنه في إعارة للسعودية.. عندما عرف عشية دخولي المستشفي ما أنا مقدم عليه.. طلب أن أحرص علي أن يقوم الدكتور خالد سعد بعملية التخدير وأوصاه علي. طلبت أن ألقاه.. لا أذكر شيئاً سوي الحجرة التي أدخلوني فيها.. المعدن حولي يحيط كل شيء.. اللون السماوي الفاتح هو الغالب.. وإضاءة باهرة.. أتحرك من سرير إلي سرير.. وابتسامات من حولي.. ألمحها باهتة شاحبة.. لا تحمل الود.. في عيونهم لا مبالاة.. حالة مثل أي حالة.. حتي جاء الدكتور خالد سعد.. بابتسامته الطيبة.. صافحني وهو يتمني لي الشفاء.. كان حرصي شديداً في لقائي مع الدكتور خالد.. أن أقص عليه ما كان مني مع الدكتور عمرو.. طبيب التخدير الذي زارني في الحجرة.. والبعد عن الذوق في لقياه.. أرجوه وقبل إجراء الجراحة أن يبلغه أسفي واعتذاري. يمسك أحدهم بيدي.. يغرس الحقنة في الوريد..وحقنة أخري.. وأحاول أن أعي ما حولي.. أحسست بقناع علي وجهي.. كأنه قماش سميك.. ولكنه فتح لي منافذ أخري للرؤية.. والإبصار. في هذه اللحظة تراءت لي مشاهد مازالت محفورة في وجداني.. لا أعرف مدي استغراقي فيها واستغراقها معي.. كأني لمحت أمي رحمها الله تجلس علي كرسي في زاوية من زوايا الغرفة.. شعرت بفرح بلقياها.. طاف ببالي ما كنت قد قرأته ووعيته من استغراقي في العلوم الروحية والروحانية.. أنه في لحظة انتقال الإنسان من الدنيا إلي الآخرة. تستقبله الأرواح الطيبة من الأهل والأقارب ليرشدوه إلي ما سيكون.. بالقرب منها لمحت آخر من كان يخطر لي ببال أن ألقاه.. العارف بالله الشيخ عزت عبدالهادي رحمه الله ورضي عنه.. منه تعلمت معني الحلم.. والرضا.. والقناعة بقضاء الله.. وعرفت السؤال.. كان دائماً يقول بابتسامة هادئة.. السؤال مفتاح العلم.. وأشهد إنني أثقلت عليه بالتساؤلات.. واعترضت كثيراً.. وما كان يلقاه من تهوري.. يقابله بتسامح ورضا نفس.. وابتسامة تشرق علي وجهه.. تزيده ضياء ونوراً.. وهو يقول.. يا ؤنس.. لم يخلقك الله ضابط مباحث علي خلقه.. رحمه الله. رأيته في هذه الأثناء.. يقف بجلبابه وعصاه ونظارته الطبية ينظر نحوي ويبتسم.. وتعالت الروحانية وأنا أكاد أغرق في النوم.. تستغرقني الأحلام.. الوجه الآخر لوعي الحياة.. قبل أن يحرمني منها الدكتور خالد سعد. يخيل إلي أنني استرجع من بالي صورة.. أبداً ما غابت عني.. منذ أن طالعتني أول مرة.. وزارتني في المنام.. صورة المصطفي صلي الله عليه وسلم.. ألمح صورته وأنا ألج دنيا الخدر.. يبتسم لي.. ويستقبلني.. نفس الصورة التي لمحتها في منامي عام 1967.. أول مرة رأيت فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم في المنام.. كان ليلة مولده..أكثرت فيها من الصلاة عليه.. ونمت.. في المنام رأيته.. كأنه في حجرة الجلوس في البيت الذي كنت أعيش فيه مع أبي وأمي وإخوتي.. أدخل الحجرة.. أجد ثلاثة رجال يجلسون علي الكنبة في المواجهة.. يمسك بي أحدهم ويطلب مني أن أسلم علي النبي صلي الله عليه وسلم.. أهتز وأنا أقبل عليه فرحاً.. أصافحه.. لم يحادثني.. يضع يده علي كتفي وهو يخرج بي من الغرفة.. واستقر في يقيني أن من كلمني هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه.. واستيقظت بعدها من النوم..ولم أنم ليلتها من الفرحة.. ونقشت الحلم في عقلي.. ورشقت الصورة في عروة عيني.. صورة النبي صلي الله عليه وسلم.. أسير طوال عمري.. أتباهي بها.. فقد رأيت النبي حقاً.. فهو القائل صلي الله عليه وسلم.. Xمن رآني في منامه كأنه رآني حقاً.. فإن الشيطان لا يتمثل بيZ صدق رسول الله. رأيت رسول الله يضع رأسي في حجره الشريف.. ويقول اللهم إن هذا ولدي.. اللهم إن هذا ولدي.. وأبدأ لم تغب هذه الرؤي عن بالي وخيالي في يقظتي ومنامي. وشدتني صورة المصطفي.. أنستني الشيخ عزت.. وأمي.. وبعدها لم أذكر شيئاً.. غرقت في دنيا المجهول بالنسبة لي.. آخر ما أذكره.. كما يخيل لي.. أنوار باهرة في سقف الحجرة.. أي حجرة لا أدري.. وأنا راقد علي ظهري.. لا أدري ماذا حدث. وفتحت عيني.. لا أعرف متي.. كم من الوقت مضي.. لا أدري ولكني فتحت عيني علي وجه ممرضة.. وجه طيب.. ترتدي نظارة طبية.. لمحت في عينيها فرحة.. استقبلتني ابتسامتها.. حاولت أن أتكلم عجزت.. طلبت مني الانتظار لاستدعاء الطبيب لإخراج اليوب من فمي.. استوعبت معني كلامها.. والذي اشعرني أن في حنجرتي مدسوساً شيئاً يكاد يمنعني عن التنفس. ولم أشعر بشيء.. أحسست فقط أن شيئاً كان يملأ فمي وينغرس في القصبة الهوائية قد انسحب مني.. لأنطق.. أسألها اسمك إيه? ترد: ضي.. أكرر ضياء.. تقول ضي.. أتذكر أغنية عبد الحليم ضي القناديل.. أقول لها ضي القناديل تبتسم.. أسأل عن الساعة.. تقول العاشرة صباحاً. أتلفت حولي.. حجرة واسعة.. في المواجهة رجل أسمر.. طويل يجلس علي كرسي بجانب سرير.. حوله أسلاك وخراطيم.. وعلي وجهه قناع أوكسجين.. تقوم السيدة ضي.. الممرضة التي عرفت بعدها أنها من أكفأ الممرضات في مستشفي دارالفؤاد بنزع بعض الخراطيم عني..تضع علي وجهي قناع أوكسجين موصولاً بأنبوبة صغيرة محمولة وهي تطلب مني أن أحاول النهوض.. أتعجب.. معقول!! تقول: نعم ستجلس وتنادي اثنين من الممرضين يساعداني في القيام.. أجد نفسي عارياً إلا من روب مفتوح من الظهر.. يحكمان إغلاقه.. وأربعة خراطيم مغروسة في جسدي.. لم أتبين أين هي.. أو مكانها.. كل ما أدريه أنهم أوقفوني وسندوني لكي أخطو أربع أو خمس خطوات.. والسيدة ضي.. تحمل معها أوعية تنتهي إليها الخراطيم المرشوقة في جسمي. وعلي الكرسي الذي أجلسوني عليه.. أعادوا توصيل الأوكسجين لي.. وأوصلوني بأسلاك وأجهزة لا أعيها حتي الآن.. وعرفت إنني في غرفة الإفاقة.. قبل أن أنقل إلي العناية المركزة.. أو العناية الفائقة.. أو الانعاش.. ينتقل إلي غرفة الإفاقة.. الخارجون من حجرة العمليات مباشرة.. للتوصيل بأجهزة التنفس الصناعي. لا أدري كم مر من الوقت.. ولكن أدري أن هناك من جاء لزيارتي ورؤياي وأنا أجلس علي هذا الكرسي.. حاولت أن أتكلم معهم.. شعرت بتعب شديد ونهجان.. آثرت الصمت.. صورة عبيدة عبد السلام.. رفيق العمر.. وعلي محمود صديقي العزيز.. وزوجتي.. وولداي نبيل وهادي.. هي ما تستقر في ذاكرتي في هذه الغرفة.. كل منهم استغرقت زيارته دقائق قليلة.. وتركوني.. أنظر حولي. ويا لهول ما رأيت.. أصابني برجفة.. وهو ما سأحاول أن أصفه لكم إن امتد بي العمر.. وكان مازال لي فيه بقية. [email protected]