يقتضي الوضع الخطير الراهن الاسراع في تطبيق نهج اقتصادي جديد يأخذ في الاعتبار ما أسفرت عنه تجربتنا قبل وبعد الثورة من نتائج سلبية وما يمكن رصده علي الساحة الدولية من شواهد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لقد ترك الدستور الباب مفتوحا أمام الإجتهاد لتحديد هوية الاقتصاد المصري, فالمبادئ الاقتصادية في صدره تكتفي بالاشاره الي تكافؤ الفرص لجميع المواطنين وتمتعهم بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وإلي إعطاء الأولوية للعدالة الاجتماعية واما الفصل الثالث من الباب الأول فيضع أطرا عامة تصلح لتطبيقات اقتصادية متنوعة من حيث فرص العمل والانتاج وضمان عدالة توزيع الدخل وحماية حقوق المستهلك والمحافظة علي حقوق العاملين والمشاركة بين رأس المال والعمل, بينما تناولت المواد205 و206 و207 باختصار اختصاصات الجهاز المركزي للمحاسبات والبنك المركزي وانشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي, ولقد فعل المشرع خيرا بعدم تحديد هوية قاطعة للإقتصاد المصري في الدستور لسببين رئيسيين الأول ان ذلك سيعتبر إهدارا لحق الاحزاب السياسية في بلورة رؤي اقتصادية يمينا أو يسارا أو وسطا تحقق المبادئ الدستورية والسبب الثاني وهو ان البيئة الاقتصادية شديدة التغير في الداخل والخارج علي السواء مما يتطلب تبديلا ديناميكيا للاستراتيجيات والسياسات التنموية. علينا ان نتساءل في البداية لماذا فشل النهج الاقتصادي والاجتماعي لمصروأدي الي هذا الانفجار الثوري الهائل في يناير2011 وعدم رضا الجماهير عن أداء حكومات ما بعد الثورة ؟ وهناك مناهج أخري في دول العالم يمكن ان نحتذي بها ؟ ان نهج أصولية السوق الذي نال رواجا منذ عهد ريجان وتاتشر وتبنته في مصر حكومتا عاطف عبيد واحمد نظيف يري في تحرير الاسواق الحل الامثل لمشاكل التنمية, الا ان العالم أدرك وبالذات بعد أزمة2008 مدي الأثار المدمرة لثورة التحرير المالي وما صاحبها من زيادة مطردة للنشاط المالي في الناتج الاجمالي علي حساب نسب الانتاج والأصول المنتجة, وتآكلت مفاصل الدولة- القومية واستبدلت بمنظومة الدولة السوق وانهار في العديد من دول العالم بما في ذلك الغرب المتقدم وتشكلت نخب جديدة المال هو حافزها الوحيد غير مكترثة بالمشاكل العامة مما أدي الي تهتك للنسيج الاجتماعي فخرجت الشعوب الي الشوارع للمطالبة مباشرة بحقوقها الاجتماعية والاقتصادية متعدية الأحزاب التقليدية والتي أصابها العجز نتيجة سعيها وراء مصادر تمويل الحملات الانتخابية دون الاعتماد علي الشارع مما قوض قواعدها الشعبية, ومع هذا السباق الجنوني نحو المال تحول الاعلام ايضا الي وكالات للعلاقات العامة الخاصة بالساسة ورجال الأعمال بدلا من كونه ممثلا كما هو مفترض في الديمقراطية لضمير وذاكرة الأمة. علي النقيض اتبعت الصين ودول آسيوية اخري نهجا مختلفا, ولقد أبرزت لوريتا نابليوني الباحثة الاقتصادية المرموقة تشابه مفاهيم الاقتصاد الاسيوي في الصين وكوريا وسنغافورة وتايوان ومفاهيم الاقتصاد الاسلامي في ماليزيا في كون المال أداة إعمار وانتاج وبأن هدفه ليس توليد مزيد من المال ولكن إعطاء الحياة لثروة حقيقية منتجة, وتري نابليوني ان النهج الاسيوي بمرادفيه الاسلامي والكونفوشي يضع الضمير الاجتماعي في المقدمة ويركز علي مشترك الجمع الوطني بخلاف الانانية المتحررة للنهج النيوليبرالي, فالثروة هي ملكية الجميع وان كان البعض بطبيعة الحال- يمتلك من الثروة اكثر من الآخرين الا انه يجب ان تستخدم هذه الثروة لصالح الكل ولإستفادة الكثرة لا القلة فمؤسسات الاقراض تقوم بدور إجتماعي لتوفير السيولة للمجتمع لكي ينمو وهو دور يعلو علي الدور التجاري, فالمشاركة في المخاطر هي الاساس القيمي للعمل الاقتصادي بهدف التماسك الاجتماعي, علاوة علي ذلك فان النظام المالي في الصين والهند والي عهد قريب في العديد من الدول الاسيوية التي حققت التقدم بقي مغلقا من حيث تحرير العملة الوطنية والضوابط الشديدة علي تدفقات الأموال الداخلة والخارجة وفوق كل ذلك الاعتماد رغم الفقر- علي الادخار وليس الاستدانة لتحفيز النمو. إن جوهر الاشكالية عندنا في مصر يتمثل في عدم إدراك الحكومات المتتالية بأن النهج الاقتصادي الذي اتبع في العقد الاول من الالفية يجب تغييره جذريا وهو لم يتم حتي الآن, مع اهمية العلم باننا نحن المصريين أبناء تاريخنا الطويل, فالاسرة والدولة عندنا تتبع كودا قيميا استمر لعصور وانه لمن الخطأ الاعتقاد بان الاقتصاد لا يتأثر بالقيم الثقافية وانه يمكن بالتالي استيراد نموذج اقتصادي بكامله دون تطويع مع خصائصنا.