عن عمر يناهز الخامسة والتسعين توفي استيفان هيسيل منذ أيام في باريس. تسع وعشرون ورقة تحتوي أربعة آلاف كلمة في كتيب صدر عن دار صغيرة للنشر في فرنسا جعلت من وفاته حدثا تصدر كبريات الصحف وقنوات التليفزيون العالمية. حتي عام2010 حين نشر هذا الكتيب لم يكن هيسيل شخصية معروفة علي نطاق واسع. صدر كتابة بعنوانه الفرنسي شارك وعنوانه باللغة الإنجليزية حان وقت الغضب في ستة آلاف نسخة ليباع بسعر زهيد لايتجاوز3 يورو. وسرعان ما اصبح الكتاب الأفضل مبيعا وتحول إلي شعار للمظاهرات التي اجتاحت أوروبا والولايات المتحدة احتجاجا علي الأزمة الاقتصادية. وأصبح الكتيب الصغير ضمن قائمة هدايا عيد الميلاد وترجم إلي خمس عشرة لغة. ومن الطبيعي ألا يترجم الكتاب إلي العربية فلدينا من أسباب الغضب وأدبائه ما يغنينا عن كتاب هيسيل. وخلال أقل من عام كانت مبيعات الكتيب قد تجاوزت في أوروبا وحدها ثلاثة ملايين ونصف المليون نسخة. وحين ترجم إلي الإنجليزية عام2011 كان بيد كل المتظاهرين الذين احتلوا وول ستريت في نيويورك وتظاهروا في عدد من كبريات المدن الأمريكية احتجاجا علي الرأسمالية المتوحشة. كانت كلمات هيسيل تستنهض روح التحدي في نفوس الشباب ضد الظلم الذي أيقظ في نفسه يوما روح المقاومة ضد النازي. ولكن التحدي هذه المرة هو المقاومة السلمية ضد ما اسماه دكتاتورية الرأسمالية العالمية. كان هيسيل بكتابه يندد بمعاملة فرنسا للمهاجرين غير الشرعيين الهاربين من الفقر في بلادهم وهيمنة الأغنياء علي وسائل الإعلام وتراجع الأمن الاجتماعي في العالم والمعاملة السيئة التي يلقاها الفلسطينيون من الإسرائيليين. صب هيسيل في كتابه جام غضبه ضد اللامبلاة لدي المواطنين واعتبرها مصدر التهديد الأساسي للديمقراطية التي لاتستقيم دون مشاركة حقيقية من الناخبين ومراقبتهم لأداء من ينتخبونهم.وانتقد صمت المواطنين علي جشع البنوك ورأسمالية القطاع المالي القائمة علي الخداع والعمولات دون إنتاج حقيقي. كان يعتقد أن الغضب هو المحرك الأساسي لاندلاع المقاومة الفرنسية ولايزال الغضب مطلوبا لإصلاح مؤسسات الرأسمالية ومواجهة البنوك الكبري التي حولت العالم إلي ساحة للقمار بمضارباتها اليومية. لاينبغي أن نهزم أمام طغيان أسواق المال العالمية التي تهدد السلام والديمقراطية في كل مكان من العالم ورغم أن كتيب هيسيل أصبح شعارا لعنف المظاهرات, إلا أن الرجل لم يدع أبدا إلي عنف ولم يتصور أن يتحول كتابه إلي دليل للمتظاهرين. كان يدعو للتحلي بالأمل وتجنب الخيارات العنيفة. لم يقدم الرجل حلولا لأي مشكلة وكان يري أن هذا الجيل من الشباب عليه أن يسعي حتي يجد بنفسه الحلول لما يواجه من مشكلات. وكانت نصيحته لهم أن يجتمعوا معا وأن يفكروا معا وأن يتصرفوا معا. وقبل وفاته بعام واحد كان شغوفا بالموت ومذاقه وهو قدر لا مفر منه. وحتي يأتي الموت فسوف أظل أنشر بين الناس رسائلي وأفكاري. كان صديقا للرئيس الفرنسي أولاند الذي نعاه بوصفه رجلا كرس حياته من أجل الكرامة الإنسانية. ولأول مرة يقف المجلس العالمي لحقوق الإنسان دقيقة حدادا من أجله. اكتسب هيسيل مكانة خاصة بين المحتجين علي الأوضاع الاقتصادية في إسبانيا حتي أن حركة الشباب الإسباني حملت اسم كتابه بالفرنسية. وقبيل وفاته أنهي كتابا موجها للشباب الغاضب في إسبانيا يحمل عنوان لاتستسلموا كان يفترض أن يصدر في شهر مايو القادم في الذكري الثانية لإنشاء حركة احتجاج الشباب الإسباني ضد الأوضاع الاقتصادية ولكن وفاة هيسيل دفعت بالناشر إلي الإسراع في نشر الكتاب قريبا جدا. وقد ولد هيسل في باريس عام1917 لأب كان كاتبا ومترجما عاش سنوات في فرنسا. وفي عام1924 هرب مع عائلته إلي فرنسا فعاش فيها حتي وفاته. وحين سقطت باريس في قبضة النازي فر إلي لندن وهناك التقي شارل ديجول وانضم إلي حركة المقاومة الفرنسية وفي عام1944 أرسل إلي فرنسا للقاء حركة المقاومة السرية فتم القبض عليه واستطاع الهرب حينما انتحل صفة جندي فرنسي كان قد مات بالتيفويد. وبعد الحرب أصبح دبلوماسيا في الأممالمتحدة وهناك أسهم في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في عام2011 كتب هيسيل مقالة في صحيفة فرانكفورتر ألجيمايني ذائعة لانتشار رأي فيها أن الاحتلال النازي لفرنسا لم يكن عنيفا ومؤذيا نسبيا إذا ما قورن بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بصرف النظر عن عمليات الاحتجاز والإعدام وسرقة الكنوز الفرنسية. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفكر الغضب وأدبه يتناثر في جنبات العالم بالتغيرات في مستويات الوعي وتزايد المظالم في كل الأنظمة. لقد أصبح فكر الغضب وأدبه ملهما للحركات الشبابية في كل مكان وهي تركيبة قادرة علي قيادة التحولات الكبري في سياسات العالم. وعلي الحكومات في كل مكان أن تعي جيدا ما الذي تعنيه غضبة الشباب في قادم الأيام. وفي عالمنا العربي كثير من الغضب المكبوت والمعلن وقائمة أدب الغضب تتزايد يوما بعد آخر ولكن الحكومات لاتزال تنكر كليهما معا. رحل هيسيل ولم يرحل فكر الغضب معه فقد أصبح الإنسان مؤمنا بأن الغضب هو التعبير السياسي الحقيقي عن الحياة.