في سياق تتبع المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي(1889 1975) للحضارات وتطوراتها وتفاعلاتها توقف توينبي عند حضارة القرن العشرين, وتساءل عما سوف يميزها وما سوف يقول عنها مؤرخو المستقبل ويختارونه باعتبار أنه الحدث البارز لهذا القرن. ويتصور توينبي أن الحدث الذي سوف يتوقف عنده مؤرخو المستقبل لن يكون من بين هذه الأحداث السياسية والاقتصادية المثيرة والمأساوية التي احتلت عناوين الصحف, وإنما سيكون ذلك الشيء الذي لا يحوز غالبا علي كل وعينا أو يصلح كعنوان للصحف أو تجذب مظاهرة انظارنا لأنها تقع وتبدو علي سطح الحياة وتبعد أنظارنا في الوقت نفسه عن تحركات الإبطاء وغير الملموسة والتي تعمل تحت السطح وتتغلغل في الاعماق. غير ان هذه التحركات الأعمق والإبطاء هي في الحقيقة ونهاية الأمر التي تصنع التاريخ وستبدو ضخمة حين نستعيدها ونتأملها وحين تكون الأحداث المثيرة والعابرة قد تضاءلت وبدت في نسبها الحقيقية. بهذه الرؤية اعتقد أرنولد توينبي أن مؤرخي المستقبل سيقولون إن الحدث العظيم في القرن العشرين هو الأثر الذي تركته الحضارة الغربية علي المجتمعات التي تعيش في عالم اليوم, وسوف يقولون عن هذا الأثر إنه كان من القوة والانتشار بالدرجة التي حول بها حياة كل ضحاياه من أعلي الي اسفل. وإذا كانت الحضارة الغربية تغلغلت وأثرت في كل مجتمعات عالم اليوم وبالتأثير الذي وصفه توينبي فما هي أبرز معالم هذه الحضارة, ما هي أهم خصائصها وأدواتها التي أحدثت بها هذا التأثير العالمي الذي لم يسلم منه بمستوي أو آخر مجتمع من المجتمعات. لقد شهد القرن العشرون تطورا تراكميا لما بدأه الغرب علي مدي القرون الثلاثة الاخيرة في مجالين حاسمين وهما الثورة الصناعية والثورة التكنولوجية ومع مستويات الرخاء والتقدم المادي الذي حققته فإن القوانين التي أصبحت تنظم حياة البشر وعلاقاتهم اصبحت هي قوانين المنافسة والانانية والمصلحة الذاتية والتي كانت تحول مجتمعاتها إلي مجموعة من الباحثين عن المصلحة الذاتية وتفرق بين الأفراد الذين أصبح مثلهم الأعلي هو الربح والكسب المادي, أما الثورة الثانية وتقدمها المتسارع والتي شهدها القرن العشرون وهي الثورة التكنولوجية فقد خلقت معبودا آخر تصور معها الانسان الغربي انه أصبح سيد الكون وبشكل أوجد بيئة مصطنعة, محملة بالأخطار علي الروح البشرية وتبين أن السيد الذي انتصر كان التكنولوجيا وليس الإنسان نفسه. واصبح كابوس الانسان الغربي هو كيف يكيف نفسه مع التغير والغليان الثوري السريع الناجم عن تفجر العلم والتكنولوجيا. كانت هذه الأوضاع التي سادت القرن العشرين وسيطرة القوة المادية عليها وتراجع القيم الروحية والاخلاقية هي التي دفعت عددا من المفكرين مثل اندريه مارلو وهو يتأمل الوضع البشري في القرن العشرين ان يأمل في أن تستطيع البشرية في القرن الحادي والعشرين أن تستعيد توازنها وتعيد الاعتبار للقيم الروحية والاخلاقية. فهل هذا الأمل ممكن وهل تنبئ مؤشرات القرن المقبل والقوي التي ستتحكم في حياة البشر فيه دولا وافرادا ومجتمعات بإمكان تحقيقه؟. نخشي أن يكون الامر علي غير هذا النحو لا علي مستوي الدول أو في داخل كل مجتمع وفي علاقات أفراده وطبقاته. فحقيقة أن نمط المواجهات العسكرية الكبري والتي شهدها القرن العشرون في حربين عالميتين سوف يتراجع غير أن اقتتال الدول بالسلاح سيحل محله صراعها في ساحات الاقتصاد والتجارة والمال. وعلي المستوي العلمي والثقافي تنبئ الفتوحات العلمية والتكنولوجية عن تطورات تصيب الانسان بالدوار من حيث ما ستحدثه من نقلات في علاقات البشر الاجتماعية ومن أبرزها امكانيات الهندسة الوراثية وصناعة ونقل أعضاء الجسم البشري كل هذا من شأنه أن يزيد من تأكيد مفهوم العلم وقوانينه كإله ومعبود جديد يتصل بإمكانات التكنولوجيا الجديدة علي المستوي الثقافي ما سوف تحدثه الاقمار والقنوات الفضائية والانترنت في اختراق ثقافات وأنماط من حياة وسلوك وقيم ومجتمعات الغرب المتقدم وهي مع ما ستحمله من ثقافة انسانية راقية ستحمل معها أيضا نتاجا متحللا من كل القيم الاخلاقية المتعارف عليها. فما العمل أمام مجتمع مثل المجتمع المصري وهو يواجه مثل هذا التطور ومعضلاته, كيف يمكنه أن يكون جزءا منه, ويتفاعل معه مستفيدا من جوانبه الايجابية الضرورية لعملية بنائه وتقدمه الشامل, وأن يتحصن في الوقت نفسه ضد سلبياته المعاكسة والتي يمكن أن تهدد بنيته ونسيجه الاجتماعي والثقافي؟ قد يبدو هذا خيارا صعبا بل مثاليا ففي واقع الحياة يصعب علي المجتمعات والافراد أن يحصلوا علي كل شيء, وأن يكون لهم حرية الانتقاء والاختيار ومع هذا فإنه في الحالة المصرية ما يشجع أن مصر, وعبر عصورها المختلفة, وصفها مفكرنا الراحل جمال حمدان بملكة الحد الوسط. واليوم روح مصر وعقلها تتجاذبه التيارات فإن تشبث مصر بهذه الوسطية واستلهامها هي التي ستمكنها من أن تصوغ خطواتها وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل متوازن, فحيث تدرك أن اقتصادها لا يمكن إلا أن يكون جزءا من اقتصاد العالم والقوانين والقواعد التي تحكمه فإن وسطيتها ستجعلها تعي كذلك أهمية الضمير والبعد الاجتماعي, وثقافيا فان تمسك مصر بطبيعتها الوسطية سوف تجعلها تتفتح علي تيارات العصر الثقافية وتستوعب إنتاجها, في الوقت الذي تستلهم الجوانب المضيئة والتقدمية في تراثها الثقافي, وأن تواصل بثبات رسالة التنوير, وأن تخرج بها من الدائرة التي انحصرت فيها حتي الآن دائرة الصفوة والمتعلمين والمثقفين, الي القاعدة العريضة للمجتمع المصري الأمر الذي لا نتصوره سهلا أو ممكنا دون أن تمحو وصمة الأمية التي مازالت تلحق بنصف ابناء هذا المجتمع.